اذا كانت الملكية في الأردن، قد صمدت حتى اليوم، فانها مدينة بذلك للعشائر الأردنية التي كانت وما تزال عماد العصبية التي تستند اليها الدولة الأردنية. وبقدر ما كانت الملكية، تتجاوب مع هذه العصبية، وتدعمها، وتطور الأشكال الاجتماعية والسياسية للتحالف الداخلي معها، بقدر ما كان النظام السياسي الأردني قادرا على التغلب على التحديات الكبرى التي واجهته: التحدي الوهابي في العشرينيات، والتحدي الناصري في الخمسينيات والستينيات، والتحدي الفلسطيني في السبعينيات، واي منها كان كفيلا بالإطاحة به.نحن لا ننكر، بالطبع، تأثير العوامل الخارجية في دعم النظام، ولا المرونة السياسية التي أبداها في التجاوب مع متطلبات التحالف الداخلي، ولكن ذلك ما كان ممكنا أصلا لولا دعم العصبية المحلية له. واليوم، يواجه النظام الأردني مأزقا تاريخيا حيث تفرض عليه ضرورات تحالفاته الخارجية، ليس، حسب، فك تحالفه الداخلي مع العصبية الاردنية، ولكن، ايضا، تحطيمها. وهكذا، رأيناه، مؤخرا، يرسل القوات المسلحة الى معان لمحاصرتها وتجريدها من سلاحها، هذا السلاح نفسه الذي أسس الدولة، وتصدى للغزوات الوهابية، وللانقلابات، وللمنظمات الفلسطينية، ومنع الاسرائيليين من التفكير في توسيع الاحتلال شرقا. فكأن الامر يبدو، لعين التحليل التاريخي، انتحارا.ان الحملة السياسية والاعلامية والأمنية المركزة التي يشنها النظام، منذ 1994، ضد العصبية الأردنية، وقيامه بإرسال الجيش مرتين لقمع المعاقل العشائرية في الكرك (آب 1996) وفي معان (شباط 1998) وقيامه بمطاردة النشطاء السياسيين واعتقال المئات من أبناء العشائر، لم يؤد، كما هو متوقع، سوى الى المزيد من تماسك هذه العصبية، وتنامي وعيها السياسي المستقل عن النظام، بل والمضاد له في أربع مجالات حاسمة هي: التطبيع مع اسرائيل، والخصخصة، والتوطين، والخروج من النظام العربي، سيما العراقي السوري. وهي السياسات التي تطبقها النخبة النيوليبرالية المتأسرلة التي انفردت بالحكم منذ مطلع 1996، وتعتقد بأنه بالإمكان الانتقال بالأردن من دولة تستند الى العصبية في الإطار العربي، الى دولة »حديثة« تستند الى آليات السوق الخالصة في الاطار الاسرائيلي. فهل الأمر بهذه البساطة؟تشكلت البنى العشائرية الأردنية الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين تقاطع الصراع التقليدي بين البدو والفلاحين مع مؤثرات خارجية اهمها: (1) اتجاه العثمانيين، الراغبين بتجديد الدولة وتحصينها، الى اختراق الداخل الأردني، والسعي الى فرض الأمن وبناء إدارات حكومية، وقد تطلب ذلك تشجيع استقرار البدو ودعم الزراعة. (2) التطور الاقتصادي في السواحل الشامية وتنامي ارتباطها بالسوق الرأسمالية العالمية، مما أوجد طلبا متزايدا على السلع الزراعية الاردنية: القمح والحبوب والدواب والماشية وغيرها.لقد خلقت الظروف المؤاتية، لحسم الصراع الداخلي لمصلحة الزراعة والاستقرار، فنشأت مئات القرى والبلدات والمضارب المستقرة، التي كانت، في الوقت نفسه، »معاقل عشائرية«. وفي مطلع القرن الحالي، كانت »الحروب« البدوية الفلاحية قد انتهت تقريبا، واستقرت العشائر، على نوع من تنظيم نصف فلاحي نصف بدوي، في مناطق متلاحمة داخليا، وان كان ارتباطها معا أقل تلاحما، ولكنه كان كافيا لكي ينظر مثقفوها، القادمون من هزيمة المملكة السورية على يد الفرنسيين عام 1920، الى شرق الأردن بوصفه قطرا، ولكي يفكرون في بناء دولة أردنية، قبل مجيء الأمير عبدالله الى البلاد عام 1921.أعلن الأمير عبدالله انه جاء لحشد القوى من اجل تحرير سورية واعادة توحيدها. وفي هذا السياق، انضم اليه في معان، ثم عمان، مثقفون وسياسيون من الأقطار السورية كلها. ومحضت العشائر الأردنية تأييدها للأمير، ولحكومته التي تشكلت من سياسيين وإداريين من رجال العهد الفيصلي في دمشق. الا ان العلاقة بين الطرفين انهارت لدى اتضاح الصورة. فالإمارة الباهظة التكاليف أرهقت العشائر ضريبيا، وهددت نفوذها المحلي، وحرمت أبناءها من الوظائف الحكومية، وفي الوقت نفسه، لم تحرر سورية، بل انها لم تحافظ على استقلال الأردن: وهو »استقلال« تقلص شيئا فشيئا، كلما كانت قدرة الإمارة على فرض الأمن الداخلي تتعزز، حتى تم إنهاؤه لدى التوقيع على المعاهدة الأردنية البريطانية لسنة 1928. فهذا »الاستقلال« كان ناجما بالأصل عن عدم رغبة الإدارة البريطانية في فلسطين، وربما عدم قدرتها، على تأمين الاموال والقوات اللازمة لفرض الامن على مساحات واسعة تقطنها عشائر مسلحة، فاختارت الوسيلة الأقل كلفة لتحقيق الغرض نفسه، أعني »الإمارة«، فهل يكرر التاريخ نفسه مع المعاهدة الأردنية الاسرائيلية؟ ان الاستراتيجية التي وضعها رابين بيريز بالنسبة للأردن، تأمل بتحقيق وضع الأردن تحت الهيمنة الاسرائيلية، بالاستناد الى الأسلوب البريطاني نفسه، بينما كانت استراتيجية آرئيل شارون غير الواقعية والباهظة التكاليف، تريد إرسال الدبابات الاسرائيلية الى عمان.شهدت العشرينيات والنصف الأول من الثلاثينيات، صراعا بين العشائر والامارة، انتهى بعقد اجتماعي داخلي، تبلور، في السنوات اللاحقة، باتجاه قيام تحالف داخلي.لقد اتبع الانكليز، الذين تنبهوا الى صعوبة تأمين الاستقرار في البلاد بدون التفاهم مع العشائر، سياسات مرنة تجاه المعارضة الداخلية، فتحت الاستجابة لمطلبها السياسي الرئيس، وهو وقف نشاط الوكالة اليهودية، واليهود، على الأراضي الأردنية، نهائيا، وبموجب قوانين بالإضافة الى التجاوب مع مطالبها الأخرى، بما في ذلك الاعتراف بالنفوذ المحلي للعشائر و»مصالحها«، واستيعاب أبنائها في الجيش والادارة، وتوجيه قدر أكبر من الانفاق الحكومي للخدمات العامة والزراعة.ولعل الحرب الفلسطينية الاولى، وضم الضفة الغربية الى »المملكة الاردنية الهاشمية«، التي كانت قد أعلنت »واستقلت« عام 1946، قد ختمت هذا الفصل من تاريخ الأردن، الذي شهد، في الخمسينيات، ولادة الحركة الشعبية الحديثة التي اطلقتها حركة التحرر الوطني العربي، واندلع صراع عنيف بينها وبين النظام. هنا انشقت العشائر الأردنية على أساس بدوي فلاحي، فانخرط أبناء الفلاحين في التنظيمات الحزبية، وبخاصة البعثية والشيوعية، وشكل العسكريون منهم، تحت إغراء الانموذج المصري، حركة أردنية للضباط الأحرار، فشلت في أهدافها، لأن أبناء العشائر البدوية في القوات المسلحة، انحازوا للملكية.مع وصفي التل، في مطلع الستينيات، عاد التحالف الداخلي الى التشكل في إطار شامل يقوم على بناء نسخة أردنية، وفي ظل الملكية، من دولة القطاع العام الناصرية البعثية: قطاع عام، وخطاب قومي، وعقيدة اجتماعية اقتصادية بورجوازية صغيرة، وجهاز مخابرات قوي، وتوظيف واسع النطاق في المؤسسات العامة والحكومية والجيش. وبكلمة استيعاب العشائر في التي استقطبت، في صيغتها الجديدة، بعثيين وشيوعيين وضباطا أحرارا سابقين من أبناء العشائر. فنشأ تلاحم داخلي أساسي، وعصبية تمكنت من هزيمة أقوى تمرد واجهه النظام الأردني في تاريخه، وهو تمرد المنظمات الفلسطينية عام 1970. وبفضل الدعم السياسي الذي قدمته سورية في السبعينيات، والدعم السياسي المالي الذي قدمه العراق في الثمانينيات، والمساعدات الخليجية طوال هذين العقدين، تمكن النظام من تعزيز التحالف الداخلي عن طريق تضخيم اجهزة الدولة والجيش والقطاع العام، واستيعاب معظم ابناء العشائر في الجامعات والوظائف، وإنشاء البنى التحتية في الأرياف والبوادي، والتوسع في الانفاق الاجتماعي والخدمي في مجالات التعليم والصحة بالأساس. بينما كان فلسطينيو الأردن، المنخرطون في الانشطة الخاصة، يستفيدون من مقاولات الانفاق العام، والتجارة، وتزايد الحاجة الى الخدمات المهنية، كما من التحويلات السخية من اقرابائهم العاملين في الخليج، مما ادى، عموما، الى استقرار متين في أردن السبعينيات والثمانينيات، استطاع ان يضبط نشاط ممثلي المنظمات الفلسطينية والاحزاب الاردنية المرتبطة بها في حدود رمزية، وفي إطار الشارع الفلسطيني.