ناهض حتّر
في اعقاب الاعلان عن اتفاقية اوسلو 1993 وخصوصا بعيد التوقيع على المعاهدة الاردنية -الاسرائيلية 1994 كان هناك سيل عارم من الافكار والمشاريع الكبيرة، في كل مجال تقريبا، قدمها حالمون او واهمون على مائدة التطبيع بين العرب واسرائيل.
وكانت حصة الاردن من مائدة الهواء المعلب هذه، وافرة بحجم الاستعداد الدائم عند بعض النخبة الاردنية لشراء الاوهام، وترويجها في اطار خلق (جو) وسياق سياسي-ثقافي للعلاقات الثنائية الاردنية -الاسرائيلية، بمعزل عن استمرار الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية في فلسطين وسورية ولبنان، وبغض النظر عن العدوان الاسرائيلي المستمر ضد الشعب الفلسطيني، بل بالرغم من تهديدات اليمين الصهيوني المتعاظمة ضد الامن الاردني ومصالح الاردن الاستراتيجية.
وقد عشنا النصف الثاني من التسعينات تحت وطأة تيار حكومي (واهلي) من المتأملين بالتطبيع مع اسرائيل، والتعاون معها، بل وبالتحالف الاردني الفلسطيني الاسرائيلي تحت مظلة «الشرق الاوسط الجديد»!
ونذكر هنا، بالخير، نضالات شعبنا المثابرة ضد هذا التيار، ولكننا نشير الى ان اندحاره كان محصلة موضوعية لتطور الاحداث «فأوسلو» سقطت في كامب ديفيد-2، واظهرت اسرائيل انيابها للفلسطينيين، واندلعت انتفاضة الاقصى، وتجدد الصراع على ارض فلسطين ضد المشروع الصهيوني القديم -الجديد القائم على نقل القضية الفلسطينية وتصفيتها، ديمغرافيا وسياسيا، على حساب الاردن.
وتعمد الفلسطينيون بالنار والدم مرة اخرى، وقدموا التضحيات والبطولات، وما زالوا، من اجل الحفاظ على ارضهم وطموحهم الوطني الى دولة مستقلة حرة، وعودة اللاجئين والنازحين.
من جهة اخرى، انهار (السلام) على المسار السوري، ودخل في مأزق وربما لن يخرج منه بسبب الاطماع الاسرائيلية في الجولان، بينما حقق اللبنانيون بالمقاومة وليس المفاوضات، انجازات في تحرير الارض والاسرى والارادة.
كل ذلك ادى الى سقوط التيار التطبيعي في الاردن، وانكفاء العلاقات الاردنية -الاسرائيلية الى ابعاد رسمية تواجه ضغوطات قوية من الرأي العام الاردني الذي اكتشف ان معاهدة 94، كانت ناقصة ومتعجلة ومفرطة في الحقوق الاردنية على مستوى الارض والمياه واللاجئين الخ.
والى جانب كل ذلك اكتشف الأردنيون ان المشاريع التطبيعية ليس لها اساس فمعظمها دعاية فارغة، او ليس لها افق اذا كان لها اساس -لان الصراع العربي الاسرائيلي يرمي بثقله على مجمل التحركات والمشاريع الثنائية.
وكنا نحسب اننا تجاوزنا هذه المرحلة -بقضها وقضيضها-حين فوجئ الرأي العام الاردني باحتفال وضع حجر الاساس لمشروع المنتجع العلمي (جسر الهوة) في وادي عربة! وكأن العلاقات الثنائية مع اسرائيل، ومشاريع التطبيع، عصية عن تأثير التطورات الدامية، وانهار الدم، والاخطار الاستراتيجية، وخطط الترانسفير، ومشاعر الاردنيين ووجهات نظرهم.
يبقى ان نقول ان مشروع المنتجع العلمي التطبيعي في وادي عربة ليس سوى قبضة من الاوهام فالمشروع -اذا قام اصلا -سيقاطعه الاردنيون ولن يستطيع الاسرائيليون المشاركة… الا تحت حماية السلاح!!
القفز عن القضايا الاساسية في الصراع العربي الاسرائيلي الى التعاون الثنائي مع اسرائيل هو بالنسبة للمكرمة الشارونية محطة دعاية غير مكلفة، لكنه بالنسبة لنا، كارثة سياسية بلا ثمن.
واهم عناوين هذه الكارثة 1-الاساءة الى صورة الاردن وسمعته عربيا وفي الاوساط الشعبية المعادية لاسرائيل في العالم الاسلامي والعالم 2-اضعاف دور الاردن وحججه ضد المشاريع العدوانية الاسرائيلية على المستوى الدولي 3-افراغ التنمية السياسية وفكرة المشاركة الشعبية من اي مضمون جدي. 4-اضعاف البرلمان 5-اضعاف انتاجية الاردنيين الذين تبهظهم الاهانة والاساءة الحكومية المتعمدة لكرامتهم الوطنية 6-الاساءة الى سياق الحوار الوطني وتفكيكه تحت وطأة الشعور باللاجدوى 7-تعزيز تيارات التطرف والتعصب.
***
والمدهش ان القائمين على (المشروع) لم تخطر لهم اسئلة اولية وبسيطة مثل:
– ما هو مصير (المشروع) اذا لم يحدث اي تطور سلمي على المسارات الفلسطينية والسورية واللبنانية بل اذا حدث العكس وتفاقم العدوان الاسرائيلي في كل الاتجاهات؟!
– وماذا اذا واصل الاسرائيليون بناء الجدار الاستيطاني وطردوا مئات الالاف من الفلسطينيين شرقي النهر؟!
– من يجرؤ على تجسير الهوة مع الاسرائيليين، بينما يغرق الاشقاء الفلسطينيون بالدم والجوع والحصار والاسر على ايدي الاحتلال الاسرائيلي؟!
– ما هي الاثار النفسية والسياسية الناجمة عن انخراط شباب اردنيين في مشروع تطبيعي مع الاسرائيليين؟! هل هناك العدد الكافي من هؤلاء الشباب المستعدين للتخلي عن وجدانهم الوطني والانساني؟ بل وما هو مصير هؤلاء واي مستقبل ينتظرهم، وما هو دورهم في الحياة الوطنية، حين يقاطعهم المجتمع وينظر اليهم كمشبوهين ومطبعين؟!
***
الاردنيون عرب حقيقيون، مرتبطون وجدانيا وسياسيا بالاشقاء سواء في فلسطين ام العراق ام سوريا ولبنان ومن المحيط الى الخليج.
الاردنيون يكرهون اسرائيل -ومعهم كل الحق -وسيظلون يكرهونها، ويتحسبون منها او من كل تعاون معها طالما لم يوجد حل تاريخي للصراع العربي الاسرائيلي.
الاردنيون يكرهون الاحتلال والعدوان والعنصرية ولن يكون هناك مشروع قادر على حملهم على تجسير الهوة مع الاحتلال والعدوان والعنصرية!!