آذار /2001
المقتبس
ناهض حتّر
برقية
مكتوم: خلاصة الموقف حتى الساعة ١٥٠٠، يوم ٢٠ آذار ١٩٦٨
“تأكّد لنا أن العدوّ استقدم لواء دروع، وعناصر من المدفعية ومظليين إلى منطقتي الجفتلك وأريحا (.) أصبح مجموع قوات العدو لوائين من الدروع ولواء مشاة محمول وكتيبة دبابات مستقلة، بالإضافة إلى كتيبة المظليين ووحدات من المدفعية المختلفة (.) ويتوقع العدوان في أي لحظة الآن …”
مدير الاستخبارات العسكرية
العقيد غازي عربيات
… وفي تمام الخامسة والنصف من صباح اليوم التالي، 21/03/1968، بدأ العدو الإسرائيلي بقصف مدفعي شديد على مواقع قوة الحجاب الأردنية شرقيّ النهر؛ ثم ما لبثت أن اندفعت قواته، عبر النهر، تتقدمها مدافع ١٠٦ ملمتر المحمولة والدبابات ….
الجندي الأول مصطفى سليمان اسماعيل (من السلط) رمى، بقاذف الصواريخ، الدبابة الإسرائيلية الأولى، وأعطبها، وارتبك الرتل المعتدي واستشهد مصطفى. رفيقه الجندي الأول مسلّم قاسم مطير (من الكرك) كان، منذ اللحظة الأولى، يرمي، بلا توقف، من رشاش الـ ٥٠٠، مشاة العدو المتقدمين، ذاهباً إلى استشهاده الأكيد، بيد أنه، كما روى زملاؤه، كان يهزج بأغنية حُبّ.
كان يهدي استشهاده البطولي لإمرأة!
من كانت تلك التي يطيب الموت لذكرى أحضانها؟ تايكي البروج، وضحة، آمنة؟ سنرى… بيد أن الغزاة لم يقضوا ليلتهم في ديرتنا. وعاد الرجال الذين لم يموتوا الى النساء الفخورات.
“يابنت يللي بالبيت
طلّي وشوفي فعالنا!”
الأرامل، من خلل البكاء الصامت، يستذكرن المشهد الأخير، يستعدنه تميمةً لا تموت.
(قالت العربية الحرّة التي رفضت الزواج بعد فارسها، تبرر عزوفها عن الرجال: استحمَّ وتطيَّب وشربَ زقاً من الخمر وذهب الى الصيد وأتاني، في آخر الليل، وعلى ثيابه دم الغزال، فضمَّني ضمّة–فتمنيتُ أنني مِتُّ ثمّة!)
الفارسُ الآتي من صبوات الموت ترك للمرأة، عناقَه الحارّ وروائحَه: الطيبَ والخمرَ والدمَ… فأسرها حيةً حتى آخر العمر!
مسلّم قاسم مطير كان رجلاً من الجيل الأخير في سلالة الفرسان التي تحدرت من الصخر الذي ينحته الحب. أعني الرجال الذين يولدون من زواج الصخر والحب. أعني صايل الشهوان الذي حين شتَّتَ قصفُ الطائرات الانكليزية جموع الثائرين، في ضواحي عمان، العام ١٩٢٣، هاجمَ مصفحات العداء، وهو يهزج. انها لحظة تراجيدية كاملة. فصايل، لو شَرَدَ، لن يهزج، بعدها، ولن يقرب النساء!
فيما بعد، سيأتي فتىً اسمه حبيب الزيودي، يثور، في احدى صبواته على التدجين، ويلتقط المعنى في قصيدةٍ تستلهمُ الفارس/الشهيد:
“فتىً، به سُمْرةٌ تغوي البناتِ إذا
ما سرَّجَ المهرةَ الشهباءَ، او ركِبا
وظَنَّ أن الحوايا فضةً ورأى
حصى الينابيعِ في شمس الضحى ذَهَبا
…
في فتيةٍ
خيَّطوا الصحراء من دمهم
وعلَّموا خيلها التحنان والخبَبَا
شبّوا على رملها الغاوي وعلَّمهم…
صفاؤه الحبَّ والأشعارَ والطَّربَا…
سبعونَ عاماً، وما زلنا نعاتبه
على الجنونِ،
ولم يسمع لنا عَتَبا!”
***
أنا، ساحدثكم عن ذلك الجنون! كيف يكون الموت بهيجاً كأنه لحظة الحب في أغنية:
“يادار لا تلومينا بالتخلّي
ويا ما ذبحنا دونك كل مرفاس
كم عسكري! إبحوطة السور ظلِّ
لعيون من تردف ورا الذيل مقواس!”
فلمن كان يعتذر الشاعر الكركي المبدع… وقد صَدَّ أهلُه حملات ابراهيم باشا، حملةً وراء حملة، حتى خربتْ وهي تقاوم، وحَمَلها رجالها الى البنادق. أللحبّ؟ أ إلى لحظات الوصال في امسيات البيوت، ولكن الكرك لم تذل ابداً. ومرة أخرى، كان فرسانها، العام ١٩١٠ يغنون:
“لعيونِ مشخص والبنات
ذبح العساكر كارنا!”
أين اختفت تلك السلالة؛ ولا أعني الشهداء، فنحن لم نكفّ –ولن نكفّ–عن الموت الشجاع، طالما ظلت حياتنا مهدَّدَة بالغزاة والتخلف والاستبداد. انني أسال عن سلالة الشهداء الذين لا يبتغون لحظة الجنة، ولكن لحظة التوحد، بالموت، مع الحبيبة… مع تايكي/ وضحة/ آمنة؟ الذين… “طريق البنات ” جنتهم الوحيدة:
” يا هَلي
وإنْ مُتتْ
وإن كَتَبْ لي مَمَاتْ
وابحشوا قبري على طريق البنات“
أعني: اين العراريون:
“قالوا: قضى ومضى وهبي لطيَّته
تغمدت روحَه رحماتُ رحمانِ
عسى وعلَّ به يوماً مكحلةُ
تمر تتلو حزب قرآنِ؟“
ولستُ مريضاً بالحنين الى الماضي. لست نوستالجياً… ولكنني أبحث عن مخرج من هذا القرن من التدجين، حتى خمدتْ ارواحنا فلم تعد دماؤنا تضج في ليلة صيف:
“شباب قوموا العبوا!
والموت ما عنو
والعمر شقحة قمر
ما ينشبع منو!”
من يجرؤ الآن على الموت والمرأة وبهجة العمرِ القصير الذي نبدده بالخوف والمذلّة والحرص الميركنتيلي الذي يدمر الرجولة؟
من يجرؤ، فيقول، كأبي وصفي!
“… فادني شفاهَكَ من فيهي
أمصمصُها
وادفئيني فإن البرد آذاني“
من يجرؤ!
“قالوا يحب؟! أجل إني احبُّ–متى
كان الهوى سبةً يا أهل عمّانِ؟“
الهوى صار سُبَّةً، لأن عمان فقدت إلهتها الحامية تايكي… وصارت مرتع التجار والإدارة، اعني ذلك التحالف الكمبرادوري –البيرقراطي الذي زحف حتى استولى على البلد … وروحها:
اليكَ عني ألقاباً واوسمةً
قد أرهقت بضروب الخزي عنواني
رأسي لربي وربي لن أطأطئه
ولن اذلك يانفسي لديانِ
كان عرار ما يزال يرى العالم كفارس:
“هاتي الجبينَ فما تزالُ سعادتي
ان يدنُ من شفتي، طوع بنانِهِ
وتوسدي صدري وحسبي نعمة
هذا الذي توحين من خفقانِهِ“
وغازَلَ كفارس:
“لِمَ الوجناتُ ياليلى
ملَوَّحةٌ كزرجونة!
لعلكِ–ويكِ–مرمستيه
ياليلى بدحنونة
بنفسي من خديدكِ قبلةٌ غراء يا شينة
وقلبي المتعب العاني بودي… لو
تواسينه.”
تلك السلالة! هل تبدأ من امرئ القيس؟
.. فجئتُ وقد نضَّتْ لنومٍ ثيابها
لدى الستر إلّا لبسةَ المتفضّلِ
فقالت يمين الله مالكَ حيلة ٌ
وما إن أرى عنك الغوايةَ تنجلي
خرجتُ بها أمشي تجرَّ وراءنا
على أثرْينا ذيلَ مِرطٍ مُرَحَّلِ
فلمّا أجزنا الحيَّ وانتحى
بنا بطنُ خَبْت ذي حقافٍ عَقَنْقَلِ
هصرتُ بِفَوْدَيْ رأسها فتمايلتْ
عليَّ هضيم الكشح ريا المُخَلْخَلِ
مهفهفةٌ بيضاء غيرُ مُفاضَةٍ
ترائبها مصقولةٌ كالسَّجَنْجَلِ
وتضحي فتيتُ المسك فوق فراشها
نوؤمُ الضّحى لم تنطق عن تفضُّلِ
الى مثلها يرنو الحليمُ صبابةً
اذا ما اسبكرَّتْ بين درعٍ ومِحْوَلِ
تسلَّت عماياتُ الرجال عن الصٍّبا
وليس فؤادي عن هواكِ بمُنْسَلِ!!
ورث الأردن صبابات العرب!
وبطنُ الخبَتِ ذو الحقاف العقنقلِ
الذي هو “أرض مطمئنة حولها
مرتفع من الرمل المنعقد المعوج”
يحمى الحبيبين من الأنظار، يذكره غالب هلسا في روايته/الملحمة: “سلطانه” مراراً… فقد كان مايزال، في الأربعينات، محبَّون يلتقون في بطون الخبت في فلوات ماعين!
حسناً! في التقليد الأردني، تكتشف الصبيَّةُ نهديها، فجأة، في ثوب الطفولة، فتشكو إلى والدتها:
“يايمَّة ثويبي ضيِّق
لجَّنْ عليَّ نهودي
سبحان رب الخالق
رمانتين ابعودي!”
ثم تكتشف الحب، في لحظة كرَّسها تيسير سبول، ليكتشف معنى العتابا:
“من متاهات الصحارى
قادمٌ هذا الصدى
أيَّ اصقاع طواها
متعباً جاز المدى
وَكَبا
عند اعتاب السهارى
صَمَتَ السمار، أصخوا
لصدىً يغوي حنينا ًوإدكارا
يالهاتيك البنيّة
طفلةً كانت حيية
كبرتْ يا مقلتي
فارت رُغابا
بوغتت بالحبِ، لم تدر
تشهَّتْ وأنثنتْ حيرى
وتشكَّتْ!
قسوة َالأهل وجورَ الوالدين
وتغنَّتْ بالعتابا
والعتابا
حين طافت بنا
جرَّحتنا
جرحت من قبلُ ليلَ الرافدين“
لكن قسوة الأهل ولدت في “مدينة الغبار الكثير والشمس الحارة ” التى أسماها تيسير في روايته “انت منذ اليوم” “هجير“ حين …” المحارب هنا أصبح له كرش“.
…
“قال ضابط المخابرات
– شهادتك تصبح ورقة تافهة بمجرد ان أخط كلمتين. هل تعرفهما؟
ولم أجب.
– كلمتان فقط “لا أوافق” لا الحكومة ولا أية مؤسسة ستوظفك لديها، مفهوم“.
فهو، إذن، الإخصاء، . المحارب أصبح له كِرْشٌ. والأهل صاروا قساةً لأن ضابط المخابرات يستطيع ان يبدِّد حياة الشاب بكلمتين… أو، في حالة أخرى، ببضعة مجرمين ينهالون على آخر السلالة العرارية بالهراوات حتى الموت، من أجل ألا تنقص ارباح الكمبرادور.
لكن الأهل، قبل ذلك، لم يكونوا قساةً. وكانت البنتُ العاشقةُ تصارح امها، وتطلب إليها أن تطلب زيارة الحبيب:
“يمّه اندهيلوا
شوقي مَرَق خيَّال
يمه اندهيلوا
وأنا الـ بحجيلوا
ونتِ لو ذي بالباب “
الأردني، أعني سليل الفرسان، يداري ابنته، ريحانةَ البيت، كالريحانة، ويطلق في قلبها الحار الثقة لكي تغني!
لأطلع ع راس الدرج
واهفهف بثوبي
واشرف ع دار الولف
واشوف محبوبي!
لأطع ع راس الدرج
وامشي على مهلي
مشية دلال وعجب
مافي حدا مثلي “
وحين تزف ريحانة البيت، تدعو الأم بكرها:
“وسِّع الميدان“.
وتغني لها شقيقاتها وصديقاتها:
“رحّبي بضيوف أبوكِ يا … “
وهي، تايكي/ وضحة/ آمنة، الإلهة الحامية للرجال، تتوجع، من شذا التواصل الإنساني الحميم، لوجع الحبيب، وتسهر له متوجدة:
“بيَّا ولا بيك
ريت الوجع يازين
بيا ولا بيك
لأسهر واداويك
واحلف ع نوم الليل
وأسهر واداويك!”
وهو، الفارس، العاشق، يشبَّب، استمراراً لتقاليد العرب القدماء، علناً، بالمرأة التي يحبها وتحبّه، ويتوحد معها في وجع العشق فيقول:
“وأنا واياها طوانا الياس
مَن يشتري قلوبنا دينِ؟“
والقائل هو صالح رفيفان المجالي… وهو مَن هو في المرجعية الاجتماعية التقليدية، لا يحَّرم الحُبَّة/ القبلة من حيث المبدأ، ولكن على النذل والشينِ:
“حبتها تشفي عليلَ الناس
حرمتْ على النذل والشينِ“
الأردني، اعني من سلالة الفرسان، يعترف بحق المرأة، كريمته وشقيقته، بالحب العشقي: فعن العرب القدماء ورث الأردنيون هذه النظرة الطبيعية الفخورة بأنوثة الأنثى مثل افتخارها برجولة الرجل. ولذلك يغني الفارس باعتزاز:
“ياما حلى ركوب الأصيل
اللي عليها المعرقة
ياما حلى حب الطموح
بين الحنك والمخْنَقة ”
فمن هي “الطموح” تلك التي يتسابق الرجال على الزواج منها:
“ما نوخذ كل مطلَّقة
والبنت ما نرضى بها
ما نوخذن الّا الطموح
اللي تعاف ارجالها”
من هي غير امرأة تغادر بيت زوجها لنقص في رجولته، فتطمح الى غيره علناً، وبحماية والدها واخوتها المؤمنين بحقها الطبيعي بالعيش مع رجل يشبع عواطفها الانسانية والانثوية… رجل مثل امير شعراء الأردن… نمر العدوان.
***
نمر العدوان، كان أميراً وفارساً وشاعرا ً.
وقد ميّزنا نمر العدوان بالمثقف من بين سائر الأمراء والشيوخ الأردنيين، لأنه نزع في سلوكه الحياتي وشعره إلى التمايز وإلى التعبير عن رؤية تقدمية وحساسية جديدة بالنسبة إلى عصره. لقد حصل نمر العدوان المعارف الثقافية المتاحة في بيئته، وانتقل بشعر البادية إلى آفاق جديدة.
وإذا كان الشعر، في البيئة البدوية، هو الميدان الثقافي الأبرز، والمجال الذي يجري فيه النقاش الاجتماعي، وتتحدد في اطاره القيم، فإن نمر العدوان، نزع، إلى أن يلعب دور المثقف العضوي التقدمي باستشفاف قيم الحياة الجديدة للتكوين الأردني، واستصفائها والتبشير بها. لقد كان لنمر العدوان زيارات لا تنقطع إلى المراكز الحضرية في الشام وفلسطين. وكان على صلة بالقيم الحضرية الجديدة، فبشر بالتسامح والحب وإعلاء شأن المرأة والرقة والتواد في الصلات الاجتماعية، مازجاً هذه القيم بأفضل ما في الأخلاق البدوية مثل إكرام الضيف، وإغاثة الملهوف والشجاعة في الحرب. أحب نمر العدوان زوجته (وضحا) حباً غرامياً. وأعلن عن ذلك صراحة، وأبدع أجمل قصائده في رثائها. وكان كل ذلك غير معهود في شعر البادية الأردنية. ولم تكن (وضحا) بارعة الجمال بل كانت أنموذجاً للمرأة الأردنية المتمثلة لقيم بيئتها. يقول يعقوب العودات:
«يروى عن (وضحا) أنها إذا رأت الضيف مقبلاً هشت للقائه باسمة، وخفت لاستقباله ببشر وايناس. وإذا جاءت أمام حفل زاخر بشيوخ العرب، رجعت إلى الوراء خطوات بعد أن تغمرهم بضروب الحفاوة والاكرام بدون أن تبدي لهم ظهرها. وفي ايام المجاعات كان بيتها مترعاً بأنواع الماكل لما كانت عليه من الفطنة والاقتصاد والمعرفة بحاجيات البيت، فلما فاضت روحها إلى بارئها، خرج (نمر) هائماً على وجهه في البراري والقفار، ذارفاً الدمع الهتون عليها، وجلس زمناً طويلاً على قبر (وضحا) باكياً مستبكياً».
لقد وجد الأمير الشاعر في وفاة زوجته الحبيبة (وضحا)، مناسبة درامية للاعلان عن حساسيته كفارس عاشق.
وهو، بتأكيده على أولوية شخصيتها وصفاتها الأخلاقية على جمالها وصفاتها الحسية، وباعتبارها صديقة وشريكة، وبتقديسه لمشاعر الحب الحميمة، والفخر بهذه المشاعر علناً، كان يجدل ضفيرة من المواقف أعلن عنها شعره، يتحد فيها ما هو بدوي وما هو فلاحي. فنحن نجد في شعر نمر العدوان ضفيرة من القيم التي توحد تمجيد الأنوثة وتمجيد الرجولة. والتأكيد على قيم الحرب إلى جانب قيم الحب، والقوة إلى جانب اللين والمودة، والكرم البدوى إلى جانب التعاضد الفلاحي، والصراحة والإباء إلى جانب الحياء والتواضع… وهي كلها وغيرها ضفيرة القيم الأردنية المنسوجة من التقاليد البدوية–الفلاحية المتمازجة معاً، والتي ميزت قيم الشخصية الأردنية التي تبلورت في عملية التحول النوعي من البداوة إلى الفلاحة التي شهدها الأردن خلال القرون ١٧ و١٨ و١٩ وتميزت بتداخل عمليتين هما الاستقرار الفلاحي للقبائل البدوية والحفاظ على التنظيم الاجتماعي البدوي للمتحدات الفلاحية، في اطار نظام شبه مشاعي.
لقد لمع نجم نمر العدوان في الثقافة الشفاهية الأردنية بوصفه مثقفاً (منظماً وناشراً للقيم) عبر شعره، بأكثر مما لمع نجمه بوصفه أميراً لواحدة من أقوى العشائر الأردنية، فهو، بتعبيره عن القيم الجمعية للأردنيين، لم يعد أميراً أو شيخاً لعشيرة العدوان، ولم يعد شاعر القبيلة، بل شاعراً وطنياً شعبياً، يجد فيه كل أولئك الذين مست قلوبهم رهافة الحب، من كل القبائل، شاعرهم. أي أن نمر العدوان، بنزوعه إلى القيام بدور المثقف العضوي للتحولات الاجتماعية –الاقتصادية الوطنية، استطاع أن يكسر نطاق القبيلة، وأن يغدو شاعر الأردن، لا شاعر(العدوان) وامارة نمر وفروسيته المشهورة، لم تلعب دوراً قبلياً، بل ساهمت في تكثيف الرمز الثقافي القيمي الجمعي الذي كانه نمر ففرضت قصائده نفسها على جميع أبناء العشائر الأردنية، فتغنوا بها، وتغنوا بصاحبها، كاسرين بدورهم قيودهم القبلية، إلى وحدة الانتماء الثقافي. أن نمر العدوان هو أول علامة بارزة على نهوض الأردنيين من مرحلة القبائل والمناطق إلى مرحلة الشعب والوطن. وهو إلى ذلك، استطاع أن يصل إلى أكثر مما أراد، في تصوير الأبعاد الإنسانية والعاطفية للعلاقة بين الرجل والمرأة، فوضع يده على سر هذه العلاقة التي يتناوب فيها الرجل والمرأة “السيادة“، ليصنعا معاً جدل الحب والشراكة الانسانية.
ويلمح القارئ الفطن في شعر نمر العدوان، نزوع الشاعر إلى الانفتاح على المدى الشامي، وميله إلى الخروج من العزلة العشائرية المناطقية باتجاه المراكز الحضرية في سوريا وفلسطين، وهو ما يعبّر عن نزوع الوطنية الأردنية التقليدي إلى تأكيد العلاقة مع هذه المراكز، واكتشاف الذات الوطنية في إطار اكتشاف الذات القومية.
***
لقد تعرفت إلى شعر نمر العدوان، أول مرة، شفاهة. فقد كان الجيل الفائت يردد هذا الشعر، في ليالي الشتاء أمام مواقد النار، وفي ليالي السمر الصيفية. وأحسب أن الأردنيين، قبل الطفرة النفطية والتأمرك الثقافي والانحطاط القيمي وغير ذلك مما عشناه من مآس منذ أواسط السبعينات، كانوا يحفظون مقطوعات عديدة من شعر نمر العدوان ويترنمون بها وبخاصة قصيدته الذائعة الصيت “البارحة يا عقاب“ وقد صنع العلامة ركس بن زايد العزيزي مسلسلاً تلفزيونياً جيداً عن نمر العدوان إلا أنه ضاع وضاع تأثيره في زحمة المسلسلات البدوية الهابطة الذوق والفقيرة المضمون.
وأذكر عندما تبلور خط الوطنية الأردنية، أوَّلَ ما تبلور، في صفوف اتحاد الشباب الديمقراطي الأردني، في نهاية السبعينات، ان صديقنا ورفيقنا في الاتحاد، عقاب الرواحنة، قد استعاد، بصوره عفوية، اشعار نمر العدوان، وأخذ يترنم على الربابة بمقطوعات منها. وانني أستعيد هذه الذكرى الطيية الآن، وأظن أن استذكارنا نمر العدوان، في إطار نشاطنا لبلورة الخط الوطني الأردني، لم يكن مجرد مصادفة. فنمر العدوان هو أول رموز الوطنية الأردنية. وفي الإيقاع العميق لقصة حبه وشعره يكتشف الأردني رعشة الانتماء لهذه الأرض التي على ثراها تشكلت وحدة المشاعر والقيم لشعب عربي أصيل، مايزال، بالرغم من كل أشكال الطمس الثقافي والتهميش الاقتصادى والسياسي، قادراً على معاودة اكتشاف ذاته، ومعاودة الأمل بحياة أكثر تقدماً وبهاء، أعني حياة تستحق أن تعاش حتى آخر قطرة في حميمية العلاقات الإنسانية والعاطفية الحرة في مجتمع تقدمي وديمقراطي.
البارحة يا عقاب!
إن أشهر قصيدة للشاعر نمر العدوان، هي قصيدته التي مطلعها «البارحة يا عقاب…» وكان الشاعر–على ما يروي يعقوب العودات–قد قضى عيد الأضحى المبارك في القدس الشريف. «وفيما هو عائد إلى أهله شعر بغم شديد يضغط على صدره، واحس بموجة من التباريح تسطو على قلبه، وكان هاتفاً نفسانياً هزه هزاً عنيفاً، وأشعره بوفاة زوجته النادرة المثال، ولم يكن له سابق علم بوفاة (وضحا) فطفق يبكي وينوح نواح الثواكل عليها». فتوحَّد إحساسه بزوجته الحبيبة، جعله قادراً على العلم بوفاتها وهو بعيد عنها.
البارحة يا (عقاب) يوم القمر غاب
بليلة العيد السعيد الجـديد
عيد سعيد بضحى العيد لي طاب
حاضر وناظر بمعايد وديدي
من عيدنا هذا طفر قلبنا وشاب
صار أتعس الأعياد يا عقاب عيدي
أمر جرى بالمقادير وأسباب
غصباً عليّ يا عقاب: ويش بيدي
محبوبي أنا سقاني شهداً صفا ذاب
اريح من فحاح سوق البريد
محبوبنا عبداً وسيّد وحبّاب
ذو ناب هو عبدي وذو ناب سيدي
ياعقاب! أنا جيت الحي وكنّي كنت غيّاب!
نبهت الخدم يا عقاب ويّا العبيدِ
سايلتهم عن صاحبي وين هو غاب؟
قالوا: استمع يا نمر ما هو بعيدِ
زاير هلُه يا نمر «بسايح ذياب»
سريعاً يلفي والمحبة تزيدِ
ياعقاب ان كان ما جرى غيظ وعتاب
حافظ لساني من الخطا وحافظ ايدي
يا عقاب اركب فوق ساجوج مهذاب
نضوٍ سبترٍ سوسحاني فريدِ
أسرع من الدولاب لن ساب أو ثاب
اكشفْ خبر محبوب عيني وريدي
يا عقاب ان كان هرج العبد كذاب
برجلي أنا يا عقاب صك الحديد
مكّنوا انا كتافي واسجنوني ورا الباب
اسوح أنا وأنصى بلاد الصعيدِ
كل ما غشيت مراح أو جيت مرقاب
اجوح جوح الذيب واعضّ بايدي
انهف وانوح واقطر الدمع سكّاب
ع صويحبي اللي راح ما هو عنيدي
ياقلبي تقول سفوت حديد شباب
يامهجتي لو انو حجر صار شيدي
من لامني يا عقاب يبلى بارقط الناب
من جنة الوهاب ما يستفيدِ
ويلاحظ القارئ أن لغة هذه القصيدة ليست بدوية مقعرة ولا فلاحية، بل هي نسيج جديد يمثل اللهجة البدوية –الفلاحية الأررنية المتشكلة على قاعدة التحولات الاقتصادية –الاجتماعية. ومن المؤثرات الأساسية في اللغة الشعرية لنمر العدوان، اتصاله بالمراكز الحضرية العربية. وهناك اشارات إلى أن نمر العدوان، قد تحصل على دراسة منتظمة في الأزهر الشريف، ولكن صلاته مع دمشق والقدس، مؤكدة. وقد أثر كل ذلك في شعره، مضموناً ولغة.
***
(وضحا) أخرى من قلم غالب هلسا.
انموذج (وضحا) تجسد في شخصية آمنة، الأم الثانية لبطل رواية غالب هلسا (سلطانة). وقد صعد غالب هلسا بالمرأة الانموذج، لكي تلخص، في رمزيتها، الأردن–الحلم، أي الأردن البدوي–الفلاحي البطولي الذي تهشم بمعاول الضفة البورجوازية المشوهة التي خلقها الاستعمار الانجليزي فالأمريكي. يصف غالب آمنة، فيقول:
«كان رقص آمنة جزءاً منها، أحد تجليات شخصيتها: تقترب حتى يظن قائد الجوقة أنها ممنوحة له. ما عليه إلا أن يمد يده ليأخذ الخنجر من يدها. امرأة ممنوحة كلياً لرجل يذوب وجداً وشبقاً، ولكنه يكتشف أنها ممتنعة حد الاستحالة، وان نجوم الليل اقرب إليه منها.
وكانت آمنة تجلياً للجو العام على نحو حاذق، مبهم. ففي القرية انفتحت طاقات للفرح لا ترتوي. ولكن كان يرافق هذا، يمتزج به، خوف، يبدو كأنه يقول: الفرح ليس لنا. انه تجديف على الرب، وتجاوز لقدر الانسان، الانسان مكتوب عليه الشقاء، نلاحظ ذلك عندما ينطلقون بمرح وضحك لا ضابط لهما. ثم يتوقفون فجأة ولمسة رعب قد تسربت إلى الوجه كأنها دخان صعد من عمق اللحن، من بخار القلب، ليشيع بالوجه ويحيط بالعينين. تذكر أيها الانسان انك خلقت للعذاب والموت.
وينطلق صوت المغنية وهي تهاهي. وتنشد الجوقة:
يا صبابين الشاي
زيدو حلاته
واللي ما يعشق ويحب
يحرق حياته
آمنة وحدها كانت فرحاً خالصاً. رأيتها مرة بعد واحدة من تلك الرقصات. رأيتها تشع. شعرت أن شيئاً ما قد انفلت من سيطرتها المحكمة. ذلك أحد أسرار آمنة: لم تكن تخاف من الفرح!».
***
“تايكي” “وضحا“… “آمنة” نساء أحببن الحياة والناس والفرح، وكن، على نحو ما حضوراً رمزياً لأردن بطولي مازلنا نحبه، ونعمل من أجل أن يكون وطناً للحرية… والحب… والتقدم.
*نص الكلمة التي ألقاها الزميل ناهض حتّر في “بيت الشعر“/عمان، ضمن الأمسيات الرمضانية 12/12/2000.