بين يديّ شيخ المناضلين

ناهض حتّر
في الذكرى الخمسين لالغاء المعاهدة الاردنية – البريطانية، لا أجد، في عقلي وقلبي، من بين الشخصيات الكبيرة التي صنعت الحدث، اسما يلمع مثلما يلمع اسم الدكتور يعقوب زيادين. عرفت «الدكتور» في غبش الوعي الطفولي، وعرفت انه «شيوعي». فمن هو الشيوعي؟ انه طبيب وانسان رؤوف ويعالج الفقراء مجاناً من دون ان يستعلي عليهم، بل انه يصادقهم ويحدثهم، ويشجعهم. وهو وطني، ويدافع عن البلد، ويتحدى الحكومة، وعنده قدرات خارقة في الصمود أمام بطشها. وكان هذا هو الساحر في شخصية زيادين: الجمع بين تحدي الحكومة وصداقة الفقراء، وبين التميز المهني والاجتماعي واتّقاد المشاعرالوطنية والشعبية.
أُنموذج د. زيادين هو الذي شدّني للاقتراب المبكر من الشيوعيين، ولم يكن ذلك عن طريقه، ففي النصف الثاني من السبعينيات كان الحزب الشيوعي موجودا في كل مكان، وفي مدرستي في الاشرفية (ثانوية حسن البرقاوي) كان في صفي، وحده، طالبان منتسبان الى (اتحاد الطلبة) التابع للحزب الشيوعي.
وفي السنوات الطويلة لصداقة كان لها في قلبي، دائما، ذلك الوهج الفريد، ظل د. زيادين (ابو خليل)، عندي، فوق كل اعتبار سياسي، وخارج الخلافات، وفوق المناقشة.
وحين اصدر الدكتور زيادين، مطلع الثمانينيات، كتابه «البدايات».. هزني من الاعماق هذا الكتاب البسيط الذي يصور حياة مناضل تمثل القيم الانسانية العميقة للتراث الاردني والطوبى الشيوعية. لم أبحث، في الكتاب، عن (تحليل ماركسي) للمجتمع الاردني. لاحظ النقاد، غيابه، فما كان يهمني، وهو، عندي، الجوهري، فتلك الاحلام بحياة اجمل.. وذلك الشوق الى التوحد مع اوجاع البشر واحزانهم، وتمثل آمالهم والنضال من اجل تحقيقها.
لقد ألهمني كتاب زيادين، (البدايات)، قصيدة طويلة ما زالت (تعيش) في وجداني. لقد تابعت د. زيادين الشاب، وهو يغذّ الخطى الى مكتب الحزب الشيوعي اللبناني في (الخندق الغميق) في بيروت، ليحصل على منشوراته، ويرى، من خلالها، العالم الجديد الموعود. وتأملت تلك اللحظة من الوله بالاكتشاف، كأنني أتامل جوهرة مشعّة فريدة.
أصبح منزل د. زيادين، في عمان الثمانينيات، منتدى ثقافياً وسياسياً لليساريين والوطنيين، فبينما كانت الاحكام العرفية تطبق على حياة عمان، وتغلق الابواب والنوافذ امام مئات المثقفين التقدميين والوطنيين الطامحين الى التعبير عن انفسهم، والتواصل فيما بينهم، والمشاركة في العمل العام… كان منزل د. زيادين الكريم والودود والمتفهم، ملتقى لهؤلاء، وبغض النظر، عما اذا كان زواره من الشيوعيين او من سواهم من المثقفين والحزبيين والنشطاء النقابيين. فقد كان ابو خليل يهلل لزائريه الكثيرين، يستقبلهم بابتسامة عذبة وعبارات الترحيب والمودة متمسكا بكل تقاليد الضيافة الاردنية! ولطالما كانت تلتقي، عند (الدكتور)، مجموعات مختلفة من خلفيات حزبية واجتماعية وثقافية متعددة، تزوره للسلام، او للنقاش، او لترتيب نشاط سياسي او ثقافي.
لقد كان د. زيادين قطبا للحركة الوطنية الاردنية في الثمانينيات. وهذا (الدور) ربما كان، من وجهة نظري، اهم من الادوار النضالية العالية التي لعبها في الخمسينيات، بما في ذلك نشاطه المرموق في القدس، وانتخابه عنها عضوا في البرلمان.
وفي الثمانينيات. لم يعد ابو خليل شخصية شيوعية او حزبية فقط. بل قائداً وطنياً يحظى بالاحترام والتقدير من كل اطراف الحركة الوطنية والمثقفين. وكان (الدكتور) يدعو، بصورة منتظمة، الى لقاءات ثقافية خصبة يحضرها عشرات المثقفين التقدميين من مختلف الاتجاهات، حزبيين ومستقلين. وكانت هذه اللقاءات تعقد للحوارات الحرة. او للتنسيق النقابي، او تكريماً لزوار عرب كبار (اذكر منهم المفكر المصري اليساري محمود امين العالم).
وكان (الدكتور)، في كل هذه المناسبات جميعاً، مضيفاً كريماً، واسع الصدر، لا يتحيز لرأي، ويتيح للجميع، التعبير بحرية عن آرائهم.. بما في ذلك المناقضة للاتجاهات الحزبية المقررة. وكانت تلك. نافذة مضيئة طيبة الانفاس في جدار التزمّت والقمع.
ما حدث في الـ ..1989 كان عاصفاً. لقد انهارت حقبة كاملة. ومضى بعض الوقت قبل ان نكتشف انه كان تطوراً الى الوراء! فالانتقال الى الليبرالية. تمخض، وما يزال، عن آليات لامتصاص المثقفين في الطبقة الحاكمة ومؤسساتها. وبالتوازي مع افقار الريف والفئات الشعبية، جرى افقار الحركة الوطنية من الاطر القيادية والدماء الشابة، ووصل البلد إلى طريق مسدود من الانقسام بين خيارين، ليبرالي كمبرادوري.. وسلفي رجعي. والى ان يلمع البرق ويدوي الرعد من جديد، سوف يظل منزل (ابو خليل).. منارة للقلوب الجريحة في حب وطن ممنوع.

Posted in Uncategorized.