ناهض حتّر
بسم الله الرحمن الرحيم
انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين واخرجوكم من دياركم وظاهروا على اخراجكم ان تولوهم ومن يتولهم فاولئك هم الظالمون.
صدق الله العظيم
(1)
ما كان ينقص شمعون بيريز، وهو يدخن النارجيلة في الشميساني، سوى ان يحدد تاريخ اليوم الذي سيجتمع فيه وزراؤنا السابقون واللاحقون وكبار الموظفين والنواب والاعيان ورؤساء البلديات وشيوخ العشائر ووجهاء المخيمات وكتاب الاعمدة في الصحف اليومية، في «مؤتمر وطني» حاشد يقر، بالاجماع والتصفيق والهتاف، خططه-اي خطط شمعون بيريز -الخاصة بمستقبلنا السياسي والاقتصادي، والمتضمنة:
١ -اقامة كونفدرالية سياسية (اردنية فلسطينية)
٢ -وكونفدرالية اقتصادية (اردنية –فلسطينية-اسرائيلية).
ولو فعل سيدنا ومولانا بيريز ذلك، لهوّن علينا الامر، وحسم المناقشة، واعطانا الوقت الكافي لاتخاذ الترتيبات الامنية، واعداد الخطب الرنانة التي ستقال بالمناسبة، وتحضير الاغاني الحماسية التي سيبثها التلفزيون ليلتها، وشراء البدلات وربطات العنق الانيقة المخصصة للاحتفال بالحدث «الوحدوي» الكبير.
لكن بيريز -عن كرم وطيبة نفس-سحب نفساً عميقاً من نارجيلته، وابتسم ابتسامتة الماكرة، ولم يفصح عن المواعيد والتفاصيل فالسيد المتحضر يحدد الاتجاه، ولا يتدخل في «الشؤون الداخلية» الحميمة لدولة مستقلة ذات سيادة، وعضو في جامعة الدول العربية وهيئة الامم المتحدة… مثل الاردن!!
(٢)
لو صرح السيد فاروق الشرع بانه يرى ضرورة اقامة كونفدرالية سياسية (سورية -لبنانية) واخرى اقتصادية تجمع لبنان وسوريا والأردن، لشرق اعلامنا بالماء وهو يهتف ضد الامبريالية السورية، و«المؤامرة» السورية على كياننا الوطني وقرارنا المستقل… ولباض مذيعونا وهم يشتمون القادة السوريين والشعب السوري فرداً فرداً.
ولو صرح السيد طارق عزيز بانه يرى ضرورة اقامة رباط وحدوي من نوع ما بين بغداد وعمان، لصرخنا من الهول، واقمنا الدنيا على دكتاتورية العراق العدوانية التي تريد ابتلاع الاردن والقضاء على ما ينعم به من ديمقراطية وحرية وحقوق انسانية، ولحشدنا قواتنا على الحدود العراقية، واستنجدنا فوراً بالعم سام!
ولو قال مواطن اردني مغلوب على امره بانه لا يريد كونفدرالية مع الاحتلال… لانفجرت في وجهه الف قنبلة تتهمه «بالاقليمية» و«الانفصالية» وسوء النية وسواد القلب والضمير.
اما بيريز…؟
سبحانك يا بيريز
قل: كن فيكون!
(٣)
… اما بيريز، فلم يزعل احد منه
لم يزعل منه «القومويون» الزائفون، لانه، مثلهم، قوموي ينادي بالوحدة الاردنية -الفلسطينية.
ولم يزعل منه الاقليميون، ولم يعتبروا ان تصريحاته تمثل تدخلاً في الشؤون الداخلية الاردنية، وخرقاً للامن الوطني الأردني… فبيريز هو الداخل، وهو الامن وهو الأمان!
ولم يزعل منه الذين زعلوا من عمرو موسى، لانهم، مثل بيريز، يؤمنون بان «تل ابيب» وليس القاهرة-مركز «اقليم الشرق الاوسط» وعاصمة الامة العربية!
ولم يزعل منه الذين زعلوا من العقيد القذافي، فبيريز، مثلهم، يكره القذافي!
ولم يزعل منه التلفزيون الاردني، ولم يهيج ضده الرأي العام، كما فعل ويفعل ضد سورية والعراق وليبيا سائر العرب… فبيريز، مثل التلفزيون الاردني، يكره العرب!
ولم يزعل منه اصحاب «القرار الوطني المستقل»، فقد كان «القرار الوطني المستقل»، اصلاً، من اجل الوصول الى دفء الاحضان البيريزية!
ولم يزعل منه اولئك الواهمون بان هناك «مؤامرات عربية» لالغاء الدور الاردني… فبيريز هو الدور والمخرج والمسرحية!
لم تزعل الحكومة الاردنية، ولم تصدر بياناً تدين فيه اغتيال المجاهد فتحي الشقاقي كما فعلت عندما قتل غزاة يهود في السابق، ولم تستنكر تصريحات بيريز حول القدس، ولم تتحفظ على تصريحاته حول الكونفدراليتين… فبيريز لم يفعل شيئاً سوى انه مارس حقوقاً اعتيادية منحته اياها المعاهدة الاردنية-«الاسرائيلية»، والحكومة الاردنية-كما هو معروف-تلتزم بدقة، بكل تعهداتها الدولية.
ومدخنو النراجيل في مقاهي الشميساني لم يزعلوا من بيريز… ولماذا يزعلون. فكلنا في النارجيلة، شرق!
(٤)
… وانا لم اندهش لان احداً لم يزعل من بيريز… فالدراسة التي اجراها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية، ونشرت نتائجها على حواف تصريحات بيريز الكونفدرالية، تؤكد، بما لا يدع مجالاً للشك!؟ بان اغلبية الاردنيين والفلسطينيين تؤيد خطط شمعون بيريز الذي بنى توجهاته، فيما يبدو، على نتائج هذه الدراسة «العلمية المحايدة» مؤكداً مدى ما يتمتع به من «حس ديمقراطي» وميل للاستجابة الى رغبات الاردنيين والفلسطينيين!
أو-وهذا احتمال آخر-ربما عرف الاردنيون والفلسطينيون بما يريد بيريز، فقالوا نعم لبيريز وخططه، نظراً لثقتهم المطلقة برجاحة عقل وزير الخارجية «الاسرائيلي» ونفاذ بصيرته وحسن نواياه، وادراكهم انه يفهم مصلحتنا اكثر منا، ولا يريد لنا سوى الخير.
او-وهذا احتمال ثالث نميل اليه -ان بيريز-وبالترتيب مع اصدقائه في عمان-قد وجه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية الى اعداد دراسة تؤيد، بصورة ملموسة وعلى طريقة الاستفتاءات العربية خطط بيريز الكونفدرالية، فتم تصميم الاستمارة، ابتداء، بحيث تنتهي نتائجها الى ما انتهت اليه -وهذه حيلة نعرفها ونعرف اسرارها جيدا، وكفانا الدكتور فهد الفانك عبء فضحها!
(٥)
وبيريز الذكي، اعرب عن خططه الكونفدرالية على دفعتين، فاعلمنا اولاً، وبعد التوقيع على اوسلو، بانه يرى ضرورة اقامة كونفدرالية اردنية-فلسطينية، ثم وفي عجقة قمة عمان الاقتصادية، اعلمنا ان هذه الكونفدرالية الثنائية هي كونفدرالية سياسية، وانه يخطط لانشاء كونفدرالية ثانية، اقتصادية تشمل «اسرائيل» ايضاً، بحيث تكتمل الصورة، ويتأسس القلب الديناميكي للشرق الاوسط الجديد!
وبيريز ذكي ولكنه كذاب.
فلو كان يهدف حقاً الى اقامة كونفدرالية بين الاردن وفلسطين -حتى الذاتية الحكم والمحدودة السيادة-لما كان صدر القرار الرسمي الاردني العجيب بمنح الجنسية الاردنية وجواز السفر الاردني لكل من يطلبه من مواطني الضفة الغربية وغزة!
فهذا القرار الذي يمثل-في الآن نفسه-ضربة للكيان الاردني ولمشروع انشاء الكيان والفلسطيني في الضفة والقطاع، لا يؤسس لكونفدرالية ببن فلسطين والاردن، بل لكونفدرالية اردنية-فلسطينية في الاردن فقط، هي الاسم الحركي «للوطن البديل».
وبيريز كذاب! ويستغبينا بصورة جماعية ايضاً
– فجواز السفر الاردني للمواطن الفلسطيني هو دعوة فعلية له لمغادرة فلسطين، وادارة الظهر لمشروع الدولة الفلسطينية، والانتقال الى الاردن.
– والضغط على عرفات، واذلاله، وتصعيب الامر على السلطة الفلسطينية، في الكبيرة والصغيرة، وتمزيق الوحدة الجغرافية للضفة الغربية المحتلة، وبقاء المستوطنين والاحتلال، وضم القدس والاغوار… كل ذلك وغيره لا يقود الى كيان فلسطيني يمكنه ان يتحد او لا يتحد مع الاردن، بل يقود الى تهجير الفلسطينيين باتجاه الاردن.
– وتحويل الاردنيين الى اقلية مهمشة في بلدهم، وتمييع الهوية الوطنية الاردنية وتفكيك بنى الدولة والقطاع العام، ونقل السلطة الى القطاع الخاص (الفلسطيني التكوين) لا يقود الى كيان اردني يمكنه ان يتحد او لا يتحد مع اي كان، بل يقود الى مستعمرة «اسرائيلية» مهيأة لاستيعاب الفلسطينيين في كيان خارج فلسطين وتحت السيطرة «الاسرائيلية»!
وبيريز كذاب… لان ما يفعله في الضفة الغربية وقطاع غزة من جهة… وما يفعله اصدقاؤه في الاردن من جهة أخرى، يدمّر الكيانين، ويدمر كل إمكانية-بالتالي-لاقامة كونفدرالية بينهما، شرطها الاساسي وجود كيانين حقيقيين ومستقلين! وهو شرط يجري تحطيمه يومياً على ضفتي النهر، وبناء شرط آخر هو ضروري لتنفيذ مشروع الترانسفير الليكودي، ولكن بصيغة «متمدنة».
فلا يجري طرد الفلسطينيين جماعياً الى الاردن بالقوة من الضفة الغربية وغزة، بل يجري طردهم على مهل، وشيئاً فشيئاً، وبوسائل اقتصادية وسياسية!
ولا يجري احتلال الاردن بالدبابات الشارونية، لتنفيذ شعار: «الاردن هو فلسطين»، بل يجري تفكيك الدولة الاردنية على مهل، وشيئاً فشيئاً، وبوسائل سياسية واقتصادية، بالخصخصة والغاء القطاع العام، وتوطين الفلسطينيين على نطاق واسع، وتسليم السلطة للقطاع الخاص، والانتهاء الى بلد اسمه الأردن، ولكن الاردنيين لا يشكلون فيه اكثر ١٥% من السكان بلا حول ولا طول ولامال ولا سيادة، فعندها يصبح حتى الاسم (الاردن) نافلاً!!
مشروع بيريز الكونفدرالي هو نفسه مشروع الليكود…
وهو نفسه المشروع الصهيوني:
فلسطين للصهاينة
والاردن للفلسطينيين
وكلاهما تحت الهيمنة «الاسرائيلية»
نعم! اسرائيل تريد كل الارض الفلسطينية، وحل المشكلة الفلسطينية في الاردن، وتحت اشرافها المباشر، وهذا ما يحدث على الارض الآن، بالوسائل البيريزية الناعمة:
– المشاريع المشتركة بدلاً من الدبابات
-جواز السفر والتسهيلات الاقتصادية والسياسية بدلاً من الطرد الجماعي
– حرق منظمة التحرير وافشالها وتفكيكها في مشروع ملغم بكل عناصر التلاشي، بدلاً من تدميرها بالقوة.
– وهيمنة اقتصادية وسياسية وامنية على الاردن بدلاً من الاحتلال العسكري المكلف!!
وفي الوقت نفسه، الحفاظ على «امن اسرائيل» بالمعنى الليكودي!
(٦)
وخارطة الكونفدرالية الثنائية والثلاثية، خارطة متداخلة لا تتجاور فيها مناطق الحكم الذاتي مع المناطق الاردنية، فبينهما، دائماً حاجز الاسرائيلي لان وادي الاردن هو «حدود دائمة لاسرائيل» بينما يتم توحيد ضفتي وادي الاردن نفسه واقليم العقبة، في ادارة «اسرائيلية»-اردنية مشتركة… فهناك اذن، منطقة وحدة اردنية-«اسرائيلية» تشق «الوحدة» الاردنية الفلسطينية من المنتصف، بينما يشق المستوطنون «الاسرائيليون» والدبابات «الاسرائيلية» وحدة مناطق الحكم الذاتي نفسها، في حين يسيل السكان من الكانتونات الفلسطينية المنعزلة عن بعضها بعضاً باتجاه الكانتون الاردني، علماً بانه حسب تصريحات وزير الداخلية سلامة حماد، فان الكثير من فلسطينيي الضفة الغربية هم «اردنيون» مقيمون في مناطق الحكم الذاتي اي مقيمون مؤقتاً على كل حال، فكل اقامة مؤقتة – والاقامة غير المواطنة – وهناك بالمقابل فلسطينيون مقيمون في الاردن؟ والكل مقيم تحت السيادة «الاسرائيلية» لانه، وفي النهاية، ليس لاحد سيادة في «اسرائيل الكبرى» المدججة بالسلاح حتى الاسنان، الا «لاسرائيل الكبرى»!
(٧)
سؤال
بعد اكثر من ١٧ سنة على السلام المصري-«الاسرائيلي» هل يجرؤ بيريز، او حتى «اسرائيلي» معروف على الجلوس في مقهى قاهري وتدخين النارجيلة.
وذكرى
عام ١٩٨٢، عندما احتلت «اسرائيل» بيروت العظيمة، احب ضباط اسرائيليون ان يحتفلوا بانتصارهم بالجلوس على مقهى من مقاهي الرصيف في شارع الحمراء… الا انهم لم يهنؤوا بجلستهم و«انتصارهم» اكثر من دقائق… حين انهال الرصاص على رؤوسهم ومزجت قهوتهم بدمائهم! فلم يجرؤ بعدها ضابط او جندي اسرائيلي، على الاقتراب من مقهى بيروتي…
وانتصرت بيروت
انتصرت ليس لان الغزاة عجزوا عن احتلالها، بل لانهم عجزوا عن احتساء قهوتهم في مقاهيها!