اليوم هو آخر أيام 2014؛ ليس ذلك مهماً بذاته؛ فرأس السنة هو مناسبة احتفالية ليس لها معنى أبعد؛ غير أن ما يجعل من أفول الـ 2014، ذا مغزى تاريخي هو أنه يترافق مع أفول أربع سنوات طويلة ممتدة منذ مطلع 2011، سنة «الربيع العربي»؛ غداً ولادة لمرحلة جديدة.
(1)
«داعش، تمامُ الثورة السورية»، هكذا كتبتُ، هنا، قبل أشهر؛ العنوان واضح: ليست الداعشية انزلاقا لتلك «الثورة»، بل تمامها واكتمالها؛ فمنذ اليوم «الثوري» الأول، كان واضحاً أن مطالبات الفئات الوسطى المدنية بالحريات السياسية، واحتجاجات الفئات الفلاحية المُفْقَرة، ليستا سوى تيارين هامشيين على المتن الطائفي المذهبي للتمرد المسلح الإرهابي المدعوم والموجّه من قبل القوى الدولية والإقليمية، المعادية للدولة الوطنية السورية؛ وهكذا، فإن مضمون التعبئة «الثورية» نفسه، كان يقود، حتماً، إلى هيمنة داعش؛ فالطائفية والمذهبية تقودان إلى التكفير، والتكفير يقود إلى الإرهاب، وفي التطرف يفوز الأكثر تطرّفاً.
ما زلتُ أذكر التفجير الإرهابي الأول في دمشق، 2012؛ يومها اتهم رئيس «هيئة التنسيق»، حسن عبدالعظيم، «النظام» به؛ لاحقاً، صمتت «المعارضة الوطنية» عن إدانة الظاهرة الإرهابية، محملةً «النظام»، المسؤولية عن ولادتها؛ من جهتها، الحّت المعارضة الخارجية، على التدخل الامبريالي لإسقاط النظام كمدخل لإنهاء الإرهاب! المثال الليبي الجنوني أظهر لا عقلانية هذين الطرحين.
صمدت الدولة السورية، وربحت المعركة وطنياً وأخلاقياً وسياسياً، وربح الرئيس مقعده بجدارة صناديق الاقتراع؛ ما بقي معركة عسكرية لا غير؛ أعني أن كل التيارات السورية المعارضة، فقدت، في الواقع، شرعيتها وجمهورها. وفي هذه اللحظة بالذات، تحركت روسيا لاستعادة المعارضين الراغبين إلى عباءة الدولة؛ هذا هو كل شيء باختصار، بحيث تبدو وثيقة التفاهم بين «هيئة التنسيق» والائتلاف» مثيرة للسخرية أكثر مما هي مثيرة للنقاش؛ صحيح أنها تبدو وثيقة اعتراف بالهزيمة، لكن فيها من المكابرة، ما يدفع إلى الابتسام.
(2)
فقدت «داعش»، بسرعة، زخمها القتالي القائم على الصدمة والرعب؛ قوات الجيش العراقي والحشد الشعبي والبشمركة، تنجز هجوماً مضاداً يسير نحو الحسم؛ وفي سوريا، تهبط الحملة الجوية من أوهام الفضاء إلى واقعية الأرض: ليست هنالك قوة قادرة على دحر «داعش» سوى الجيش العربي السوري؛ هذه الحقيقة تفرض ما هو أكثر من التعهد بعدم الاشتباك مع هذا الجيش، وانما الذهاب نحو تفاهم سياسي شامل مع دمشق؛ خيوط التفاهم ذاك يجري نسجها، وباكتمالها، ستكون سنة 2011، قد انتهت في سوريا.
(3)
لكن الدولتين المركزيتين في المشرق، سوريا والعراق، ستواجهان متطلبات المرحلة الآتية، وهي تتلخّص في الأسئلة التالية:
بالنسبة للعراق، كيف يمكن الخلاص من عودة الأميركي ونفوذه وحضوره في السياسة العراقية؟ كيف يمكن تجاوز التقسيم الواقعي الحاصل أو الدستوري اللاحق؟ وأخيراً، لا آخراً، ما هي خريطة الطريق لإعادة بناء الدولة الوطنية التي أسقطها الاحتلال الأميركي العام 2003، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً؟
بالنسبة لسوريا، كيف يمكن تجاوز آثار الحرب وما أحدثته من تمزقات اجتماعية، وتراجع ثقافي، وفرز ديموغرافي ــــ جغرافي، وكيف يمكن استعادة الروح التعددية المدنية في البلاد؟ وهو سؤال أهمّ حتى من سؤال خطط إعمار ما دمرته الحرب؛ وربما يكون السؤالان واحداً؛ أعني أن المضمون الاجتماعي لخطط الإعمار، ربما يفتح الدروب أمام إعمار المجتمع والنفوس، وربما العكس.
(4)
في سنة 2011، كان الإسلام السياسي، وفي طليعته الإخوان المسلمون، يملأ الفراغ الأيديولوجي والسياسي في معظم العالم العربي، وبدا أنه في حالة صعود، سرعان ما انتهت إلى الحضيض: فشل في حكم أكبر بلد عربي، مصر، أتاح أقصاءهم وتحويلهم من حكّام إلى مطاريد مكروهين شعبياً؛ فشل في الحفاظ على هيبة المقاومة في فلسطين من خلال انغماس «حماس» في الحرب على سوريا، وارتباطها التبعي بالمحور التركي ــــ القَطري؛ سقوط في الخيانة في ليبيا من خلال استجلاب القوى الامبريالية والرجعية لتدمير البلد والدولة ونشر الفوضى والإرهاب؛ سقوط في تسويغ الإرهاب وتغطية «داعش» سياسياً في العراق؛ سقوط في الحرب الطائفية والمذهبية والتكفيرية في سوريا ولبنان؛ مؤقتاً، يبدو حزب النهضة الاخواني قد انقذ نفسه بالتراجع واحناء الرأس في تونس، لكن الاسلام السياسي كله تلطّخ بالدم وممارسات القرون الوسطى والتبعية للاستعمار، وفي الحالات السلمية، انكشف الاسلام السياسي العربي عن انعدام الكفاءة في الإدارة وغياب البرامج والاستبدادية؛ باختصار، أثبت الإسلاميون أن شعارهم «الاسلام هو الحل»، جاء من الماضي، وعاد إلى الماضي.
(5)
لا يستطيع الإسلام السياسي العربي أن يكون وطنياً أو عروبياً؛ هذه هي مأساته التي تحول بينه وبين المشاركة في أي مشروع تحرري تنموي في العالم العربي. وضع فاجع يحتاج إلى دراسة عميقة وشاملة؛ فولاء الإسلام السياسي الإيراني للأمة الإيرانية ومصالحها الجيوسياسية والاستراتيجية، هو الأساس في نجاح تجربة الثورة والدولة في إيران، كذلك الحال في تركيا؛ فمع كوننا ننظر بقلق، ولأسباب تاريخية وحاضرة معا، إلى تجديد العثمانية التي تهدد استقلالنا وأرضنا، فلا بد أن نعترف بأن الاسلام السياسي التركي يتطابق، كليا، مع القومية التركية ومصالحها وأطماعها، بينما يتماهى معه إسلاميّو سوريا، ويمهدون له الطريق نحو احتلال أراضي بلادهم، ويصطف الإسلاميون المصريون معه في مواجهة زعامة القاهرة.
(6)
نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي هو الأشجع، فكرياً وسياسياً، في حصد نتائج السقوط التاريخي للإسلام السياسي، لكن ليس لديه، حتى الآن، أطروحة مضادة لملء الفراغ.
الجيش العربي السوري وحلفاؤه يخوضون معركة مصير بطولية في مواجهة الرايات السود التي عفا عليها الزمن؛ لكن دمشق ما تزال حائرة في كيفية ملء الفراغ الأيديولوجي. وهل هناك بديل عن العلمانية الصريحة والتنمية المستقلة والديموقراطية الاجتماعية؟ عناوين ليست محسومة بعد، ربما في انتظار نهاية الحرب؟
(7)
سنة 2015، هي سنة الأيديولوجيا؛ سنة الحرب الأيديولوجية؛ فلنخضها، أيها القوميون العلمانيون التقدميون، حتى كسر العظم!
بهدوء | 2014، اليوم الأخير من «ربيع» 2011
Posted in Uncategorized.