قررت السعودية هدم وجرف ضريح النبي محمد (ص) وثلاثة مساجد تعود إلى فترة الخلفاء الراشدين في المدينة المنوّرة. وبذلك، تكون آخر المعالم التراثية المدينية قد تعرضت للإزالة، لتحل محلها أبنية حديثة. برر السعوديون قرار تجريف الضريح النبوي ببناء مسجد ضخم. في مكة ــــ التي تم تجريف معظم تراثها المعماري ــــ كان المبرر هو نفسه؛ إقامة مساجد حديثة ومنشآت وفنادق فخمة.
وقع مهدا الإسلام، مكة والمدينة، تحت حكم آل سعود عام 1924، حين تمكنت قواتهم من إسقاط مملكة الحجاز المستقلة وطرد الملك علي بن الحسين. مذذاك، خضعت المدينتان التاريخيتان للتجريف المنظم وفق العقلية الوهابية التي تنفر من العُمران الديني والتراث المعماري الحضري والنسيج الاجتماعي المديني المتراكم عبر العصور، وتعالجه بالهدم والإزالة.
هذه العدوانية الوحشية ضد التاريخ الاجتماعي المتجسد عُمرانا، ينطلق، عند الوهابيين، من عقيدة البساطة المزعومة أصلا دينيا، والتي تعبّر عن نزعة صحراوية معادية للحضارة، وتجد في تدمير تجلياتها المادية، طريقة حاسمة في إظهار سطوة المنع والتحريم لمظاهرها الروحية. لكن، ماذا عن العُمران المضادّ؟
أقام السعوديون نظاماً رأسمالياً مشوهاً. وهو تدرّج في النمو على أساس النيوليبرالية المتوحّشة، في نسخة كمبرادورية نفطية تشغل فيها النخب الحاكمة والتجارية، موقع الوكيل المحلي للرأسمالية الغربية والعالمية في سوق مفتوح غير مقيّد بالشروط الاجتماعية والثقافية التي تعرقله أو تحدّ من غلوائه في بلدان أخرى. وقد استفادت الكمبرادورية السعودية من الوهابيّة كأيديولوجيا مسيطرة تأذن بالتخلّص من تلك الشروط، وتسمح بالهدم، حتى حين يتعلق الأمر بالعمران النبوي، من أجل التوسّع في النشاط العقاري وتحويل الحج إلى موسم سياحي تديره، في فنادق الخمس نجوم، شركات رأسمالية غربية، حيث تناهز كلفة الحج البرجوازي الواحد، الخمسة عشر ألف دولار.
الوهابية، بالنسبة للسلطة السعودية، أداة قمع للوعي الوطني والاجتماعي الحديث، تنتهي مفاعيلها حين يتعلق الأمر بالتبعية للخارج وسيطرة الإمبريالية على البلد والتفاهم الفعلي مع الصهيونية. وهي، بالنسبة للجناح العقاري من الكمبرادورية المسيطرة، مجرد جرافة تزيل أي عوائق ثقافية تعرقل التوسع العقاري والسياحي، ثم يكون عليها أن تنزوي عندما يبدأ العُمران المضادّ.
في جدة ـــ وهي مدينة بحرية تاريخية جميلة ـــ تبحث عن التاريخ، فلا تجدْه، وعن التراث فلا تعثر له على مظهر، وتسعى لفهم هوية المدينة، فتُصاب بالتشوّش؛ قصور فارهة وراء الحدائق الغنّاء، وعمارات مصمتة بلا نَفَس، ومعازل سكنية للغرباء تحاول تعويض جهامة الفضاء المديني بإنشاء فضائها الخاص من الساحات والملاعب والحدائق، إنما في إطار سور خانق كالسجن، ومولات في إثر مولات، وفنادق فخمة من الماركات العالمية في إثر مثيلاتها، ومقاه ومطاعم حديثة هي، في معظمها، فروع للشركات العالمية. حتى المساجد لا توجد لأكثرها هوية عربية إسلامية؛ بعضها هندي الملامح وبعضها صيني العمارة وبعضها ككنائس البروتستانت؛ البحر، حتى بحر جدة الساحر الطليق، لا ينقذك من الاختناق.
ايديولوجية الدمار الوهّابية المعادية للعُمران التراثي كانت، وما تزال، منية المتمني بالنسبة للكمبرادور العقاري في البلدان العربية؛ هنا، توجد قوى اجتماعية وهيئات مدنية، ترفع صوتها الرافض لهدم مبنى تراثي عمره مائة عام. وفي الغالب، تنجح الكمبرادورية العقارية في هدم المبنى المعني بعد فضيحة، لكن، بالطبع، فإنها لا تجرؤ على اقتراح تجريف مسجد أو كنيسة أو ضريح ديني. وهكذا، فهي تغبط نظيرتها السعودية، على الجرّافة الوهابية التي لا يعترضها بناءٌ تراثي ولا مسجدٌ ولا ضريح، حتى لو كان ضريح النبي محمد (ص) نفسه.
أظنه سر افتنان تيار المستقبل (ولا أعني اللبناني فقط، بل العربي بأسمائه العديدة) ومثقفيه الليبراليين، بالوهابية التي تسمح بـ «مستقبل» بلا ماض، بلا قيم ولا مقاومة اجتماعية أو ثقافية، مستقبل يجد مبتغاه في اقتصاد السوق المعولم الحر، كليا، في ارتكاب ما يعوزه من ارتكابات، على كل صعيد، لتحقيق أكثر ما يمكن من الربح؛ الإله الوحيد الجدير بالعبادة الرأسمالية.
في ما سُمي «الربيع العربي»، أطلقت الوهابية غزوتها الكبرى، في مسارين: القَطري، مستخدما النسخة القُطبية (نسبة إلى سيد قطب) من الحركة الإخوانية، والسعودي مستخدما السلفية الجهادية التي تمثل النسخة العربية والأممية من وهّابية منفلتة من عقالها، غزوة تهدف إلى تجريف الإسلام المصري المتحضّر والوعي الوطني الاجتماعي في أكبر دولة عربية، ولتجريف سوريا نفسها، مجتمعا وعُمرانا. ويمكننا أن نكتشف، منذ الآن، الدواعي الكمبرادورية وراء تلك الغزوة المشؤومة.
البلطجة السعودية تحول دون الاعتراض على تجريف الضريح النبوي؛ فقد غدا الإسلام وكالة حصرية للتحالف الوهابي السعودي ــــ الأميركي.
بهدوء | وقفة على الضريح النبوي
Posted in Uncategorized.