ثلاث عمليات تفاوضية تجري حول الملفات الكبرى في الشرق الأوسط: (1) المفاوضات الفلسطينية ــــ الإسرائيلية، (2) والمفاوضات الخاصة بـ «جنيف» حول سوريا، (3) والمفاوضات الإيرانية ـــ الأميركية.
صحيفة «هآرتس» تنقل عن مسؤولين إسرائيليين أنهم «يشعرون أن الولايات المتحدة لم تعرض صورة دقيقة عن التنازلات التي قدّمتها للإيرانيين في إطار الصفقة». يمكن أن نسحب الشعور نفسه حول صفقتي سوريا وفلسطين؛ فلا أحد يعرف كل شيء عما يحدث، سوى أننا نعيش مناخ التسويات.
نبدأ بالجانب المعتم، وهو ما يحدث في المفاوضات الفلسطينية ــــ الإسرائيلية؛ من يستطيع الإجابة، اليوم، عما إذا كان الجانب الفلسطيني الأضعف قبل بتقديم تنازلات جوهرية أم أنه لا يزال يعاند؟ ربما كانت خلية محدودة العضوية هي التي تعرف «صورة دقيقة» عن حجم التنازلات تلك.
على كل حال، تغدو المعلومات أقل أهمية، حين ندرس الحاجة الملحة للسلطة الفلسطينية إلى استمرار المفاوضات بحدّ ذاتها. ومن الواضح أن في استمرارها هذا، تنازل فلسطيني جوهري، فيما تواصل حكومة العدوّ تكثيف مشروعها الاستيطاني على نحو غير مسبوق.
ليس لدى «السلطة» بديل عن القبول إلا الاستقالة، أي حل نفسها بنفسها. وهو ما أصبح يتعارض مع مصالح فئات اجتماعية وسياسية واسعة. في المقابل، لا تستطيع «حماس» أن تعترض بأكثر من الصرخات التي لا يسمعها أحدٌ؛ فهي استقالت، بالفعل، من القضية الفلسطينية، حين سمحت لنفسها بأن تتحول أداة بيد الإخوان المسلمين، ضد راعيتها القومية، سوريا، وتنخرط في أولوية المعركة المذهبية في بلاد الشام، وفي أولوية نصرة الدولة الإخوانية في مصر. وقد خرجت من حربيها هاتين خاسرة مهشمة، من دون قدرة واقعية على إنقاذ نفسها، فما بالك بإنقاذ القضية؟ بل إن أيام الحكم الحمساوي في غزة باتت معدودة؛ فحالما يتم التوصل إلى تفاهم مبدئي على «أوسلو 2»، ستكون استعادة رام الله لغزة مقدمة لا بد منها لإعلانه.
الطرف الثالث، المعني بالصفقة، هو المملكة الأردنية التي ثابرت على السعي لبث الحياة في ما يسمى مفاوضات «العملية السلمية»، لكن ما أن بدأت تلك المفاوضات، حتى انقطعت المعلومات؛ فعمان، أيضاً، ليست لديها «صورة دقيقة» عما يحصل. وهي تخشى، من دون أن تكون لديها القدرة على الاعتراض، صفقة لا تأخذ في الاعتبار مصالحها في ملفات اللاجئين والنازحين، والحدود الثنائية، والعلاقة الاقتصادية والمالية مع الضفة الغربية.
ترعى واشنطن، مفاوضات رام الله ـــ تل أبيب، وتضغط لحصول صفقة، لكن الإسرائيليين يضغطون لانتزاع كل شيء، ولا يقبلون بأقل من اتفاق إذعان كامل من قبل «السلطة»، بما في ذلك مباركة الاستيطان. وهو أمر غير عملي كما يدرك الأميركيون، حتى أن وزير الخارجية جون كيري أصبح يلوّح بـ «انتفاضة ثالثة»!
الولايات المتحدة التي تتلهّف لسلسلة صفقات شرق أوسطية تحافظ على مصالحها الاستراتيجية، فيما تستعدّ للتفرّغ للتحديات الآسيوية، تحصل على أفضل العروض من أخصامها الروس والسوريين والإيرانيين، في حين تعاني الأمرّين من حلفائها الإسرائيليين والسعوديين والفرنسيين الذين يعرقلون، اليوم، الخطة الأميركية لإنشاء مظلة تفاهمات في المنطقة.
علام اتفقت موسكو وواشنطن؟ ما هي التنازلات المتبادلة (غير ملف الكيماوي)؟ هل ثمّة مَن يعرف بالضبط؟ هل يكون «جنيف 2» مقابل «أوسلو 2»؟ أهذه هي المقاربة التي يحاول كيري إقناع بنيامين نتنياهو بها، فيما الأخير يظن أنه، بتحالفه مع التمرّد السعودي، سينال كل ما يريد فلسطينياً وبعض ما يريد سورياً وإيرانياً.
تعرقل السعودية، سواء عبر أدواتها السياسية السورية أم عبر أدواتها الإرهابية في سوريا، التسوية الروسية الأميركية. هل تستطيع؟ يمكنها، بالطبع، أن تسبب المزيد من الآلام للشعب السوري، لكنها ستخضع، في النهاية، لتسوية فرضتها وتفرضها الوقائع؛ فالقوتان الرئيسيتان في سوريا الآن، ليستا النظام والمعارضة، بل الجيش العربي السوري والمنظمات الإرهابية التي تم التوافق على ضربها، فحصل النظام، بذلك، على اعتراف دولي ليس ببقائه، وإنما، أيضا، بدوره في مكافحة الإرهاب بالنيابة عن توافق الدولتين الأعظم.
للسعودية شريك أوروبي مأزوم هو الآخر، بانتفاء حضوره ودوره في ما يعتبره «مستعمرته السابقة»، سوريا؛ يحاول الفرنسيون عرقلة «الهرولة» الأميركية لعقد صفقة مع الإيرانيين ، تنشأ، حسبما أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، على قاعدة «التسلسلية والتوافقية»، أي ليس كما يريد الإسرائيليون على قاعدة الشمولية تحت التهديد؛ اتفاق نهائي ينزع القدرات النووية الإيرانية أو إعلان الحرب على إيران.
ليست لإيران مصلحة، ولن تقبل باتفاق شامل ونهائي، وإنما هي تطرح إطاراً يسمح باطمئنان المجتمع الدولي إلى انها لا تزمع انتاج سلاح نووي مقابل إزالة العقوبات عنها، على أن تتم كل خطوة لاحقة في إطار ودي. وهذا هو معنى «التسلسلية والتوافقية». وهو إطار قبلت به واشنطن التي تريد، في المقابل، ضمان الانشغال الإيراني الواقعي عن مجرى المفاوضات الفلسطينية ــــ الإسرائيلية، والتوصل إلى تفاهمات بشأن سوريا ولبنان والبحرين. ولدى الولايات المتحدة، الاستعداد لتقديم تنازلات جوهرية في الملفات الثلاثة، على قاعدة التسلسلية والتوافقية. وهي «قاعدة» رابحة بالنسبة للمحور الروسي ــــ الإيراني ــــ السوري في كل مكان، ما عدا فلسطين. والمشكلة، هنا، ليست في امكان تخلي هذا المحور عن الفلسطينيين، وإنما في عدم توفّر الرافعة السياسية الفلسطينية التي تمكن الفلسطينيين من الإفادة من مناخ الانسحاب الأميركي من المنطقة.
هناك شعور لدى الجميع بأن طريق التسويات الإقليمية مفتوح. ولعلّ هذا هو «الشعور» الذي يُفقد السعوديين أي عقلانية سياسية، ويدفعهم نحو مروحة من التحالفات المرتدّة وبالاً على المملكة ومكانتها ودورها وأمنها، سواء مع الإرهابيين أم مع إسرائيل أم مع ذلك الكاريكاتور الاستعماري، فرنسا.
بهدوء | مفاوضات غامضة طريقها مفتوح
Posted in Uncategorized.