في سوريا، ينخرط مقاومو الأمس الحمساويون في القتال ضدّ الجيش العربي السوري، وتدريب عناصر الجماعات المسلحة على خوض الحرب الإمبريالية ـــ الرجعيّة ضد قلعة المقاومة العربية، وعلى تقنيات حفر الأنفاق في أساساتها. لكنهم، في غزة ـــ حيث لا توجد حرب ـــ يُشغلون بالمهمات الجليلة للمطاوعة: مطاردة الشباب ذوي الشعور الطويلة أو المسرَّحة بطريقة «لا تناسب التقاليد»، والتصدّي للمحبين وقراء الكتب المحرّمة، والاستخبار عن الالتزام بالحجاب وبعملية تنفيذ قرار الفصل بين الجنسين في المدارس الابتدائية. حماس تطارد الشياطين في غزة «المحرَّرة،» وتدهم البيوت بحثاً عن قناني النبيذ المنزلي الصنع.
اللهم زدْ وبارك: في غزة طبقة من ذوي الملايين من أصحاب أنفاق التهريب (يصل سعر الساعة الواحدة، أحياناً الى 20 ألف دولار)، وهاتِ أنفاقاً وساعاتٍ ودولارات! بالنسبة إلى هؤلاء المليونيرية المتربحين من الحصار، حلفاء الحصار، ليس هناك ما هو أفضل من التدثّر بشعار المقاومة. إن الشرعيّة التي يضفيها تهريب السلاح على الأنفاق تستخدم على نطاق واسع لتشريع كل أشكال التهريب والتهرب من كل قيد جمركي أو ضريبي أو دولتي، وتقاسم الثروات بين الفئات السلطوية. عمّا قريب سوف تبدو الأنفاق ـــ بما تورده من الملايين ـــ شيئاً تافهاً مع آبار الغاز الموعودة. يستلزم بيدر الدولارات هذا إخضاع الغزيين لسلطة حماس المطلقة، سلطة لا تؤسسها الانتخابات، ولا المشروع المقاوم، ولا السياسة، بل الشعور الجَمعي بالذنب، بالخطيئة الأصلية، بالصّغار البشري أمام سلطة تمثل الله والرسول والدين الحق وفلسطين والجهاد والمجاهدين!
مع تحوّل حماس من مقاومة إسرائيل إلى مقاومة القومية العربية والعلمانيّة و«النصيرية» والمسيحية في سوريا، لم يعد لديها أفق سوى القمع الشامل لمجتمع «ها»؛ ليس، فقط، القمع السياسي، بل قمع كل تطلّع إنساني وكل تنوع، وكل رغبة في الانفلات من الخضوع غير المشروط لاحتكار السلطة الثروة والشرعيّة، وإلغاء الآخر، ليس فحسب إلغاء حقّه في المعارضة، بل إلغاء حقّه في الحياة الفردية الحرّة.
ثلاثمئة ألف غزّي تركتهم، وتتركهم (حماس)، في وضع الـ«بدون» في الأردن. ليسوا أردنيين وليسوا فلسطينيين. أصبح يمكنهم، اليوم، العودة إلى غزة أو الحصول على الجنسية الفلسطينية وتنظيم أوضاعهم القانونية في الأردن. لكن لا حماس تريدهم، ولا شيء يغريهم بالمطالبة بحق العودة إلى ديارٍ خرجت من جحيم المحتل الإسرائيلي إلى «جنّة» المطاوعة! هل سيكون لهؤلاء مكان في غزّة القَطريّة؟ هل يستوعبهم القطاع الذي يستعدّ للانتساب الى الخليج، فكراً وحياةً ونفطاً وغازاً؟
لكي تستثمر حماس ثروات غزّة المكتشفة، فهي ملزوزة، شاءت أو أبت، إلى خيارين متعاضدين، أوّلهما هو التفاهم والتعايش مع الاحتلال الاسرائيلي، ووأد مشروع المقاومة لصالح المشروع الأمني، وثانيهما هو القبول بالترويكا الاستثمارية الإسرائيلية ـــ القطريّة ـــ التركيّة، فهي التي تضمن التفاهمات والسلام الواقعي والتمويل.
لن يكون للغزيين أو الفلسطينيين حصة في ثرواتهم ـــ كما هي الحال في أرضهم الوطنية ـــ سوى الفتات، سيظلّ القطاع محروماً ومُفْقراً، والغزيون، خارجه، في خانة الـ«بدون»، بينما يتحوّل وسطاء الحصار إلى وسطاء للغاز، ثرواتهم سوف تتضاعف، وتتطلّب حمايتها الشروع في تحويل المقاومة إلى أدوات قتالية لحلف الناتو في سوريا، وإلى حرس حدود وشرطة دينية في غزّة.
لا ينتبه نصير «الحرية والديموقراطية» خالد مشعل، بالطبع، إلى أن شرعية الانتخابات كمصدر للسلطة، هي، بطبيعتها، ناقصة (لأنها لا تمثل الإجماع) ومحدودة في الزمن والصلاحيات. حماس تحكم غزة بالتغلب والإكراه. وكان ذلك الحكم اللاشرعي ديموقراطياً، يستمدّ شرعيته الوحيدة من مشروع المقاومة ومتطلباته. وبالتخلّي عن هذا المشروع، لا يعود للحكم الحمساويّ أيّ شرعيّة، اللهم إلا رضاء الخليفة العثماني والأمير القطري، ومن ورائهما الولايات المتحدة وإسرائيل.
يا للشعب الفلسطيني السخيّ بالتضحيات، كيف ينتقل من مأساة إلى أخرى في نصف قرن من المقاومة، تصدرت «فتح»، نصفه الاول (1965 ـــ 1993) وانتهت من مشروع تحرير الأرض والانسان إلى «أوسلو»، وتصدرت حماس نصفه الثاني (1988 ـــ 2013) وانتهت من الاحتجاج على الاستسلام والتطبيع إلى القتال في صفوف أعداء فلسطين!
غير أن «فتح» ـــ أقله ــــ حاولت الانتقال من المقاومة إلى دولة الحد الأدنى في إطار الشرعيّة الأمميّة، أي إنها انتقلت من مشروع فلسطين إلى مشروع فلسطين ـــ بغض النظر عن مواقفنا منه ـــ أما حماس، فقد انتقلت من نبضة فلسطينية في مشروع الأمة إلى ميليشيا قطرية!
بهدوء | «مجاهدون» في سوريا، وشرطة دينية في غزة!
Posted in Uncategorized.