بهدوء | لا تعتذر عمّا فَعَلتْ

إنها الحرب
قد تثقل القلب
لكن خلفك عار العرب
(أمل دنقل)
(1)
العصبيات هي الحقيقة الاجتماعيّة الفاعلة في المشرق. أوضح، أوّلاً، أنها ليست حقيقة ميتافيزيقيّة متعالية أبديّة وجامدة، وإنّما فاعلة، أو كما يقول الفرنسيون: «حقيقة شغّالة». يختصر هذا المفهوم نقاشاً لا لزوم له، على المستوى السياسي، بين المنظور الخلدوني والمنظور الماركسي.
أرى المشرق في الزمن النظري للخلدونيّة. وهو ما يحدّد مجال المقاربة الماركسية. الماركسية ليست ديناً صالحاً لكلّ زمان ومكان، بل إنّ هذا الفهم لها ينقضها من حيث هي نظرية علمية في التاريخ الاجتماعي، لا عقيدة تامّة. وهذا لا يمنع اشتغالها في المشرق، لكن بشرط أساسي هو التزامها التحرّك في المجال الخلدوني. وهذا الجدل بين النظرية والمجال، صعبٌ على الماركسيين والخلدونيين؛ ذلك أنّه يحرّرهما من المكتوب والثابت، ويجرّهما إلى الكتابة في ظلّ المتغيِّر. والمتغيِّر عملية مستمرّة من «استبدال التموضع» إزاء الصراعات الاجتماعية والثقافية والجيوسياسية، الإقليمية والدولية؛ فالعصبيّة (س) ـــ المحليّة أو الدينية أو الطائفيّة ـــ تسير، وفقاً لمحدَّدات وجوديّة واجتماعيّة، من موقعها السياسي السابق إلى موقع جديد كانت تحتله العصبية (ص)، أو تنتقل العصبيّة (P) من موقع الخمول إلى موقع، ذلك الذي كانت تمثّله العصبيّة (ب).
وفي إطار هذه الحركة الدؤوب، يوظّف الكلّ المشرقي، إحدى عصبياته أو تحالفاً جزئياً لعصبياته، للنهوض بالمصالح الاستراتيجية الكُليّة للمشرق، أو يمكننا أن نقرأها من تحت: في شروط اجتماعية ـــ سياسية عيانيّة، في مرحلة تاريخية عيانيّة، تتماهى المصالح/ الجزء مع مصالح الكلّ/ الأمّة. أليست هذه هي خلاصة تاريخ المشرق من معاوية إلى سيف الدولة الحمداني إلى صلاح الدين الأيّوبي؟ ألم يلعب مسيحيّو الشام (بسبب عوامل خاصة بهم) دور المثقّف الجَمْعي للنهضة المشرقية العربية منذ أواخر القرن 19؟
ألم يلعب العرب السُنّة، لدواعٍ خاصّة بهم أيضاً، دور المحرّك للقومية العربية، ثم دفع التاريخ بالشيعة اللبنانيين إلى المقاومة؟
في السياسة ليست الدوافع هي المسألة الرئيسية، بل الفعل نفسه، أين يقع في أتون الصراع؟ وهل يعبّر، في النهاية، عن المصالح الجماعيّة أم لا؟ وذلك، سواء أكانت بعض أطراف الجماعية تلك، لا تعي الآن مصالحها البعيدة المدى.
(2)
أوّل عناوين المصالح الجماعية للمشرق ككلّ هو الخلاص من إسرائيل. هذه مهمّة إنسانيّة لإحلال السلام والاستقرار وإطلاق قوى الحياة في المنطقة كلّها. والخلاص من إسرائيل هو عملية طويلة وشاقّة ومعقّدة ومتعرّجة، ولا تسير في خطٍ ثابت، ولا تُقاس بالنوايا والشعارات، وإنّما بحقائق التموضع في سياق الصراع مع الصهيونية.
في القصير، قاتل حزب الله إلى جانب الجيش العربي السوري، بينما قاتلت حماس ضدّه. وحين نجرّد المشهد من تاريخيّته، يصبح ممكناً التعاطي مع الرؤية السطحيّة لصراع مذهبي شقّ صف المقاومة إلى خندقين متقابلين متقاتلين، ولكن، في تحليل أعمق، يطوي الدوافع الجزئية، سنرى قوّة ملتزمة خطّ المقاومة في مواجهة قوة خرجت من ذلك الخطّ. هنا، لا دوافع الملتزمين تعييهم ولا دوافع المرتدّين تبرّر سلوكهم الانتحاري، المضادّ لمصالحهم الأساسية بالذات.
(3)
الحرب السورية أطاحت بكلّ منظومات التفكير السياسية السابقة عليها؛ لم تعد المقاومة مجرّد عملية مواجهة مسلّحة مع العدوّ، وإنّما توضّحت كدفاع عن نهج شامل؛ الحقّ في الحياة والحقّ في التعدّدية الثقافيّة (وتبيّن أنّها أهمّ، ألف مرّة، من التعدّدية السياسية)، والحقّ في مقاومة إسرائيل، ومنها يُشْتَقُّ الحقّ في تأمين مسرح العمليات والظهير السياسي ومصادر وخطوط الإمداد والعمق الاستراتيجي.
مَن يدعو حزب الله إلى النكوص عن معركة المقاومة في سوريا هو كمَن يدعوه إلى الانتحار الذاتي.
(4)
لا تعتذر عمّا فعلتْ.

Posted in Uncategorized.