الانتقال من سنة إلى أخرى ليس مفصلاً، لكنه لحظة للتأمل والأمل، لحظة للروح. فهل بقيت لنا هذه اللحظة في هذا المشرق الغارق في حمّى الطائفية والمذهبية والهمجية والجنون؟ وهل بقي لنا أن نقول: سنة الخلاص يا سوريا، ففي خلاصك خلاص المشرق كلّه، خلاصنا الجماعي والفردي من آثار ثورة أوضح ما يميّزها أنها مضادة للروح؟
يوضح مثال «الثورة السورية»، وبغضّ النظر عن دوافعها المتداخلة، المكنونات الإجرامية للتعصب الديني بوصفه هوية سياسية جماعية، هذا التقليد اليهودي القديم للدين/ الأمة، الذي يستعاد في بلادنا اليوم، ويعيد إنتاج الله كقائد حربي أعلى، يجرّده من المطلق، ويجسّده، ويستخدمه في القتال، ويشرعن، بوساطته، اللاأخلاقية كمنهج شامل، والبراغماتية المنهجية والانتهازية والعدمية والخديعة والكذب والتآمر واللصوصية ومفخخات القتل الجماعي وسكاكين الذبح الفردي والاغتصاب والدمار. وباختصار، إباحة كل المحرّمات، ما دامت تُمارس ضد «الأغيار».
المسيحية كانت اعتراضاً على خواء الروح اليهودية والكَلْبيّة الأخلاقية، محاولة في استنطاق معاني المطلق، محاولة تقود إلى الإخاء في الإنسانية ـــ لا في العقيدة ـــ إلى السماح والتسامح، والالتزام بمعايير أخلاقية موحّدة إزاء النحن والآخر. وتطبيقات هذا الالتزام تفصل، حتماً، بين الدين والدولة، الله بوصفه المطلق، لا ينحاز إلى عقيدة ولا إلى طائفة ولا إلى حزب.
اللحظة المسيحية لم تدم، غرقت في ضدها اليهودي، اللهمّ خطرات روحية بقيت في المسيحية المشرقية، وتجلّت منذ عصر النهضة العربية. واظبت على نبذ التسيّس كدين، وإطلاق الحرية للمسيحيين لأن يتسيّسوا كأفراد، كمواطنين. نستثني بالطبع المثال المسيحي اللبناني الشاذ حيث نشأت أحزاب مسيحية. وهذه، في المشرق، فردية، فلا يمكن المسيحية أن تكون حزباً. لذلك، يغدو المسيحيون في بلدان الاندماج، هدفاً للتطهير الديني.
أخذ الإسلام عن اليهودية فكرة الأمة، لكنه أخضعها للمطلق وليس العكس: الأمة في خدمة المطلق وليس المطلق في خدمة الأمة في مواجهة «الأغيار»، ديناً أو مذهباً أو جماعة إلخ. لكن تاريخ الإسلام، كتاريخ المسيحية، شهد مرات عديدة عودة اليهودية إلى قلوب وعقول الجماهير المؤمنة الطائفية المتعصبة التي ما إن يفلت عقالها حتى تتحول إلى وحش لا يشبع من الدماء.
ما أنقذ الروح المسيحية وروح الإسلام في المشرق إنما هو التجربة التاريخية الفريدة المتمثّلة في العروبة. العروبة ليست نسباً بالدم (ففي العرب أجناس وإثنيات)، وليست نسباً في الدين (فالعرب أديان)، وليست إيديولوجية قومية (ففي العرب وطنيات وشعوب وأوطان)، وليست حتى لغة (ففي العرب لغات كالسريانية وسواها من لغات العرب).
العروبة تجربة فريدة ليست على مثال. فهي إطار أمة لا يجمعها عنصر ولا دين ولا لغة، ولكن تنتظمها روح هي روح المكان/ المشرق، ومنظومة قيمية، وسؤال في المطلق تكتشفه بلا توقف حفرية مفتوحة في تاريخ حضارات متراكمة بانسجام انصهرت، فكانت سوريا.
سوريا عروبية وعلمانية. هذا ليس اختراعاً بعثياً، ولا مؤامرة «أقليات»، بل خلاصة الزمكان السوري. يكفي أن نلاحظ أنه بانتقال الثقل الإسلامي من الجزيرة إلى سوريا، نشأت للتوّ دولة عروبية وعلمانية (الخلافة الأموية) التي جدّدت نفسها في أندلس وقعت، بدورها، بين براثن كمّاشة: الإسلام السياسي من المشرق والمسيحية السياسية من الغرب.
تُحسَب الخلافة الأموية على السنّة. في المقابل، شهد التاريخ العربي الإسلامي لاحقاً دولة عروبية وعلمانية محسوبة على الشيعة، أعني الإمارة الحمدانية.
ليس أمراً يمكن تسويته ألا تكون سوريا عروبية وعلمانية؛ هذه هي روحها ورابطها الداخلي وضمانة تعدديتها وحصانة استقلالها إزاء الغرب، صليبيين وصهاينة، كما إزاء تركيا، لأنه بالسيطرة التركية، تفقد سوريا دورها وتتحول إلى جغرافيا.
أخطأ بشار الأسد في تبنّي نيوليبرالية عمّمت التهميش واستحضرت التعصّب المذهبي. وأخطأ بتقارب مع تركيا المستميتة بلا توقف لالتهام سوريا، وأخطأ وأخطأ… لكنه، في صلابة موقفه وسط النار والضغوط من كل صوب، تحوّل من مجرد وريث حافظ الأسد إلى قائد تلبّسته روح سوريا، فلم يعد يعبأ بالحملة العدائية التي تستهدف تحطيم روحه المعنوية، ولا بالنصائح التي يقدمها الأصدقاء والحلفاء للتعاطي مع تسوية لا تضمن المبادئ الكبرى للدولة السورية وروحها.
يقود الرجل حرباً ضروساً للدفاع عن نظام؟ بالطبع. فهذه مهمة ماثلة عملياً أمامه. لكن أشاءت «الأطراف» أم أبت، فإنه، في إصرار الأسد على القتال بلا هوادة، وجدان قائد يملك إرادة النصر. وامتلاك الإرادة هو نصف المعركة، بينما يدور نصفها الثاني سجالاً، بكلفة باهظة جداً، لكنها في الأخير، أقل بما لا يقارَن مع كلفة التفريد بالدولة والبلد لصالح احتلال عثماني جديد قد يكون البديل الوحيد من الأفغنة والصوملة. وفي الحالتين، نهاية سوريا.
بهدوء | سنة الخلاص يا سوريا
Posted in Uncategorized.