بهدوء | سبت النور الروسي، الأرثوذكسية كأيديولوجيا عالمية

استقبل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، شخصياً، شعلة سبت النور المقدسة التي حملتها طائرة خاصة من كنيسة القيامة في القدس المحتلة إلى كنيسة يسوع المخلّص في موسكو؛ الرئيس وقادة الدولة، المدنيون والعسكريون، كانوا حاضرين في القداس الاحتفالي، الذي ترأسه بطريرك موسكو وسائر روسيا، كيريل، وخاشعين بإيمان لقيامة السيد المسيح؛ بوتين أصدر بياناً، بمناسبة عيد الفصح، لتحية الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لدورها الوطني والاجتماعي والأخلاقي.
التجربة الإيمانية للقادة الروس، هي شأنهم الخاصّ؛ لكن من الجليّ أن الكرملين حسم، نهائياً، هويّة روسيا كمركز للأرثوذكسية العالمية؛ روسيا الاتحادية دولة علمانية، وستظل كذلك؛ لكن نهوضها وتوسعها بوصفها قوة عالمية، يتطلبان التخلّص من وضع الفراغ الأيديولوجي.
مقاربة بوتين للأيديولوجيا الروسية تنأى عن الأحاديّة والنبذ؛ فهي مجدولة من عدّة مصادر: العهد القيصري والعهد السوفياتي، القومية الروسية والفدرالية، الأممية والانسانية المستلهَمة من الشيوعية والأرثوذكسية؛ والأخيرة متماهية مع نزوع قومي متسامح، ومعترفة ــــ من دون التباس ــــ بالعلمانية، وتشكّل إطاراً شرقياً حضارياً في مواجهة الغرب.
هل نحن بصدد أيديولوجيا دولة امبريالية صاعدة، كما يدعي بعض المتمركسين؟ كلا؛ بل بصدد دولة قومية تقاوم المشروع الغربي الذي لم يتغيّر مطلقاً إزاء روسيا، والمتمثل في تفكيكها وإخضاعها وإلحاقها بالنفوذ الغربي. لقد لخّص الرئيس الأميركي، باراك أوباما ــــ وهو ليس من الصقور ــــ في زلة لسان فرويدية، النظرة الأميركية إلى روسيا: إنها «قوة إقليمية»؛ ربما تكون هذه الوضعية هي أعلى ما هو مسموح به للروس لدى أكثر الغربيين ليبرالية؛ لكن روسيا التي تعلمت درس التسعينيات القاسي، تدرك مصالحها الوجودية: إما أن تكون قوة عالمية أو لا تكون.
يدمج النظام الاقتصادي الروسي بين القطاعين، العام والخاص، في مجرى واحد من سيطرة الدولة المركزية. بالتجربة، تتجه روسيا، أكثر فأكثر، إلى صيغة معقدة من رأسمالية الدولة الاجتماعية: كل الموارد والاستثمارات والمشروعات، تخضع للمصالح القومية العليا، بينما وحدة الأمة الروسية، تتطلّب صيغة ملموسة من ممارسة العدالة الاجتماعية، وتمكين أغلبية الروس من مستوى حياة لائق. وربما يكون هذا ما يحدث فعلاً؛ ذلك أن 77 في المئة من الروس، حسب استطلاع غربي، «يشعرون بالسعادة». وقد يكون ذلك الشعور تعبيراً عن زهو قومي يبعث الآمال لدى الشخصية الروسية الحساسة للجوانب المعنوية والروحية، إنما لا بد وأنه يعكس نوعا من الرضا الاجتماعي.
المنافسة الروسية عالمياً، ما تزال مقيدة في مجالات التقنيات الفعالة الرخيصة الكلفة، ومنها تقنيات الفضاء والمفاعلات النووية والسلاح، لكن أبرزها يكمن في حقل الطاقة؛ وهو ما يدعو محللين عديدين إلى التشكيك في قوة الاقتصاد الروسي، لكن ما يغفله هؤلاء أن روسيا ليست مجرد مصدّر بسيط للطاقة، وإنما مركز استثماري مستقل ومتوسع في هذا الحقل الحيوي للاقتصاد العالمي. وبما أن الروس يملكون القوة العسكرية اللازمة للدفاع عن بلادهم وثرواتهم، وبما أنهم يملكون قاعدة علمية تقنية صناعية وأراضي شاسعة، فإن مقارنة روسيا بالبلدان الأخرى المصدّرة البسيطة للطاقة، يبدو ساذجاً للغاية.
تتيح الفوائض المالية الممركزة الناجمة عن تصدير الطاقة، لموسكو، قدرات غير متوفرة لدى الغرب للتدخل الإيجابي في الأزمات لدى دول أخرى. وتشكل أوكرانيا التي سبق وخصصت لها موسكو دعماً مباشراً بقيمة 15 مليار دولار، مثالاً على التفوّق الروسي إزاء الغرب الذي لا يزال عاجزاً عن تقديم أي دعم مالي جدي للنظام الإنقلابي الموالي للغرب في كييف.
بالخلاصة، الصيغة الدولتية، الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية، لروسيا المعاصرة، معقدة للغاية، وجديدة نوعياً، ولا بد، إذاً، من مقاربتها وفهمها بأدوات جديدة؛ إنما من الواضح أنه لا يمكن الحديث عن روسيا كـ «إمبريالية صاعدة»، خصوصاً أنها تعيش مرحلة المقاومة ضد الامبريالية الغربية، وتجد، لذلك وانسجاماً مع تقاليدها الثقافية، في سيادة القانون الدولي، الإطار الملائم لممارسة دورها العالمي.
الدور العالمي لروسيا، كما قلنا، ليس ممكناً من دون أيديولوجيا قومية ــــ سوفياتية ــــ أرثوذكسية، تنسجم مع الدوائر الثلاث لتكوين الكتلة الروسية المقبلة: الدائرة الأولى هي الدائرة الروسية؛ وتتمثل باسترداد أراضي فقدتها موسكو في سياق الترتيبات الإدارية السوفياتية ــــ كما حصل في القرم ــــ وحماية المتحدثين باللغة الروسية في محيط واسع نسبياً؛ وفي الدائرة الثانية؛ ترى موسكو إلى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، كمجال حيوي أساسي؛ أما الدائرة الثالثة؛ فهي الدائرة الأرثوذكسية التي تشمل القسم الأعظم من بلدان المنظومة الاشتراكية السابقة، كما تشمل سوريا، المعدودة عاصمة الأرثوذكسية في المشرق العربي، وفلسطين التي اصطف بوتين ورجالهفي انتظار شعلة القيامة الآتية من قدسها؛ قوة روسيا الصاعدة، بقلبها الأرثوذكسي، ستتجه شيئاً فشيئاً نحو تبني مبدأي لقضية فلسطين؛ لكن الكرة الآن لدى الفلسطينيين.

Posted in Uncategorized.