يتفكك العراق العربي، تحت وطأة الانشقاق السنّي ــ الشيعي، إلى «سنستان» و«شيعستان»، بينما تتجه كردستان إلى استقلال كامل ينشئ دولة جديدة أقوى من الاثنتين معاً، عدوانية وتوسعية وحليفة للعدو الإسرائيلي. هل وضع الاستبداد الصدامي بذور هذا التفكك؟ نعم، إلى حد ما، لكن في الأساس، جراء الانخراط في مغامرات عسكرية أضعفت العراق وأفقرته، كما جراء العدوان الخارجي والحصار والاحتلال.
أما من حيث بنية الدولة البعثية الداخلية، فهي كانت لا تزال قادرة، حتى اللحظة الأخيرة، على تقديم خطاب وطني عراقي موحد. ولا ننسى أن انخراط العرب السنّة في الدولة على حساب العرب الشيعة، لم يكن عملية بعثية مصطنعة، بل كان بنية تشكلت منذ تأسيس المملكة العراقية في مطلع العشرينيات من القرن الماضي، وتوارثتها الأنظمة العراقية اللاحقة، لكن، دائماً، في إطار وطني. ربما كان الشيعة مظلومين في ظله، ولكنه كان تعبيراً عن نسيج كان ظاهراً، مثلاً، في الحرب العراقية ــ الإيرانية. سنضع، هنا، ظروف نشوء الحرب والموقف منها جانباً. فما يهمنا أن الجيش العراقي خاضها، وقت ذاك، كجيش وطني عراقي، إذ قاتل الضباط والجنود الشيعة العراقيون نظراءهم الشيعة الإيرانيين، تحت راية احتراب قومي، عربي/فارسي ــ نرفضه، وكان وبالاً. فلا توجد بين العرب وإيران صراعات وجود تتطلب الحرب، بل مشكلات يمكن حلها بالتفاهم والتعاون ــ. لكن الفكرة الرئيسية، هنا، أن العرب العراقيين كانوا موحّدين في إطار غير طائفي، من دون أن ننسى، بالطبع، الممارسات الطائفية على الأرض، خصوصاً بعد هزيمة حرب استرداد الكويت، والحصار، وانقلاب الرئيس صدام حسين من محاسبة وطرد أي بعثي «يرتكب» التردد إلى المساجد، شيعية أو سنية، نحو «الحملة الإيمانية»، حملة تضمنت استنفاراً، في واقع الحال، للعصبية السنيّة والقبلية لدعم نظام معزول.
سياق الحرب الأميركية على العراق، 2003، هو الذي أنشأ السياق الإسلامي للسياسة والسلطة في هذا البلد الذي نزف، بسبب بوليسية الدولة البعثية، خصوصاً اليسارية، على مدى أكثر من عقدين، بينما كانت المعارضة الجاهزة لتشكيل النظام البديل، تحت الاحتلال، إسلامية شيعية وإثنية كردية. وفي المواجهة اللاحقة، تراجع خطاب حزب البعث من الوطنية العلمانية الحديثة إلى الإسلام السياسي. لقد تحول البعثيون وضباط الجيش العراقي المنحلّ إلى إسلاميين. ولم يمر كثير وقت حتى اتخذ هؤلاء لمنظماتهم التي أنشأوها لمقاومة المحتلين والسلطة الجديدة أسماءً إسلامية مثل «جيش محمد». وهو واحد من أقدم تلك المنظمات. في الخلاصة: جثم الإسلام السياسي على سياق السياسة العراقية بكامله، حتى الأمين العام للحزب الشيوعي حصّل مقعده في مجلس الحكم التابع لـ«بريمر»، بوصفه شخصية شيعية! في الواقع، لم يبقَ للتيارات الوطنية والقومية والتقدمية سوى هامش صغير لحركة هامشية.
نتيجة سياق كهذا، كان انقسام العراق العربي إلى كتلتين مذهبيتين، حتمياً: كتلة شيعية اتحدت واصطرعت داخل العصبية المذهبية، تصرفت دائماً ــ من موقع السلطة ــ كمعارضة، وكتلة سنيّة أصبحت بيئة حاضنة لكل أشكال التطرف، وخصوصاً القاعدة ــ داعش، تحركت في مسار استرداد سلطة مفقودة، يائسة وانتحارية.
أين هم مئات الآلاف من الأوساط الوطنية ــ العلمانية العراقية الفاعلة؟ لقد هاجروا من العراق على دفعتين كبيرتين؛ نظام البعث هجّر أخصامه اليساريين، ثم هجّر نظام الحكم الجديد كادرات النظام السابق. بالمعنى الملموس، أصبحت الكتلة الاجتماعية المدنية المثقفة، في النهاية، خارج البلد، فلم تعد هناك سوى التعبيرات الإسلامية، الشيعية والسنيّة، إلى جانب الانفصال الكردي المعادي للدولة العراقية، وذي الطبيعة التوسعية المتشبهة بالصهيونية من حيث الاستناد إلى أساطير تاريخية للادعاء بملكية أرض تعود لآخرين.
وإضافة إلى الفئات الوطنية العلمانية، ساهمت قوى الإسلام، الشيعي والسنّي معاً، في تهجير المسيحيين والأقليات الدينية والأقوامية الأخرى، ما أسهم ويسهم في إضعاف القوى المدنية.
من الواضح أنّ هناك عناصر تتشكل لائتلاف إقليمي ودولي سوف يؤدي، في النهاية، إلى هزيمة «داعش» ووقف التمرد العسكري العربي السنّي. لكن انشقاق العراق حصل بالفعل بين عصبيتين مذهبيتين تفتقر كل منهما إلى الحد الأدنى من أسس الخطاب الوطني. هذا ما جناه الإسلام السياسي على العراق: التقسيم، والفشل في الإعمار والأمن والاستقلال والغرق في مستنقع الإرهاب.
استوردت حكومة الإسلام السياسي الشيعية ضباطاً أميركيين لكي يقودوا جيشها! واجدةً أنها لا تستطيع الحكم من دون الغطاء الأميركي. هكذا أصبح الاحتلال حاجة بنيوية لهذه القوى وهي في السلطة، مثلما كانت حاجة بنيوية لها وهي في المعارضة! في المقابل، استوردت معارضة الاسلام السياسي السنيّة الإرهابيين والدعم الإرهابي من القوى الإقليمية المعادية للدولة الوطنية العراقية، فلم تعد تستطيع أن تعارض، أي أن تمارس السياسة، إلا بالإرهاب والدمار والدم، ونحو التقسيم، وفي السياق الذي يخدم الامبراطورية الأميركية.
بهدوء | المسمار الأخير في نعش الإسلام السياسي
Posted in Uncategorized.