في التصعيد الأميركي ضد سوريا، ينكشف الوجه الحقيقي للصراع في هذا البلد، باعتباره صراعاً بين خندق وطني ـ يتجاوز الاختلافات والخلافات ـ وبين خندق استعماري يسنده طابور خامس. وليس بين الخندقين وسطٌ أو وسيط.
في الطابور الخامس يصطفّ مثقفون وكتّاب يستجرون العدوان علنا، لكن بينهم مَن يسوّغه بثرثرة مثقفة. وسأقف، اليوم، مع أحد هؤلاء، حازم صاغية. يقول: «إنّ الولايات المتّحدة دعمت الدولة ــــ الأمّة السوريّة حين ضغطت لسحب القوّات السوريّة من لبنان. والآن، في حال التدخّل، سيكون ذلك دعماً ثانياً لمشروع الدولة ــــ الأمّة السوريّة تتمثّل رمزيّته في سحب مقاتلي حزب الله من سوريّا»!
الدولة ــــ الأمة السورية، في معناها الجوهري، هي اعتبار مواطني الجمهورية العربية السورية، أمةً ناجزة، لها كينونتها المنفصلة التي تحيّدها عن التدخّل المستمر، المعادي للغرب، في شؤون المشرق؛ فالمأساة التاريخية في هذه المنطقة، حسب صاغية، تكمن في «الصراع مع الغرب» الذي أدى إلى «تعفّنها». وطالما أن الدولة السورية ذات التطلعات «الإمبراطورية» هي التي تدير، تقليدياً، ذلك الصراع، فإن إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، سيفتح الباب أمام المصالحة مع الغرب، وبالتالي الخلاص من العفن والاستبداد. الدولة السورية الحالية هي، إذاً، مصدر ومركز المجابهة المستمرة مع الغرب (وضمناً: إسرائيل)، مما يضر بالمصالح التاريخية للمشرق، ويمنعه من التصالح الداخلي والسلام والازدهار. ولذلك، ينبغي إسقاط تلك الدولة. ويمكن ترجمة هذا الكلام إلى برنامج ساداتي: معاهدة سلام مع إسرائيل، والتحالف مع الولايات المتحدة، والانفتاح الاقتصادي والكمبرادورية.
يلاحظ صاغية بأن سوريا… «منذ أواسط الخمسينيات، كانت الطرف الذي يرسم أجندة ذاك النزاع المتواصل (مع الغرب) وينفخ في ناره ويعيّن وظائف أطرافه في البلدان المجاورة». يعني ذلك أن (خطيئة) العداء للإمبريالية والصهيونية، هي (خطيئة) أصلية مكتوبة في بنية الدولة الوطنية السورية، ولم تكن نتيجة اصطناع مفروض من البعث أو نظام الأسد. ولذلك، فإن الخطة الغربية الرجعية ترمي إلى تدمير تلك الدولة، وتسعى إلى ضرب فرص التسوية السياسية حتى إنجاز تلك الخطة.
ما الذي يجعل الدولة السورية، مع تبدّل الأنظمة، دولة ممانعة؟
أولاً، أن الدولة السورية، بعكس نظيرتها المصرية، نشأت على أرض وطنية جريحة، اقتطعت منها فلسطين ولبنان والأردن ولواء الإسكندرون. وهو ما حال بينها وبين صيرورتها دولة / أمة؛ ذلك لأن اقتطاع تلك الأقاليم أدى إلى تشوّهات واختلالات أساسية في تركيبتها الديموغرافية والاجتماعية والاتنية والطائفية. وخصوصاً لجهة كسر التوازن بين الكتل الطائفية الأساسية؛ فسوريا المكتملة جغرافيا، ليس فيها أغلبية عددية لأحد ــــ ما يضمن الوئام الوطني ــــ ولذلك، عوّضت دمشق عن وحدة تلك الجغرافيا ــــ بالنزعة التدخلية في محيطها. وهو شرط أساسي لكينونة الدولة الوطنية السورية.
ثانياً، في سوريا، وتحديداً في قلبها الباقي، تكوّن تراث التحرر العربي منذ اواخر العهد العثماني، على مسارين: ضد عثماني (بما في ذلك ثقافياً) وضد غربي ــــ في شكلي الإمبريالية الأوروبي القديم والأميركي الجديد ــــ وقد غدا هذا التراث المكوّن الأساسي لأيديولوجيا الدولة السورية، العلمانية القومية. ومن دون هذه الأيديولوجيا، لا تلتحم الجمهورية على ما بقي لها من الجغرافيا والديموغرافيا السورية.
ثالثاً، في سوريا، في شمالها، وخصوصاً حلب، تكوّنت، منذ وقت طويل، فئات حرفية وبرجوازية صناعية وطنية، راكمت رساميل محلية ومهارات وخبرات، منحت للدولة السورية، تلك القابلية على الطموح التنموي. وإذا كان من المعروف أن تجارب التصنيع في البلدان المتخلّفة، لا يمكنها النهوض، حتى حين تكون بأيدي القطاع الخاص، من دون تسهيلات القطاع العام وحماية الدولة للسوق المحلية، فهمنا، إذاً، تلك النزعة الاستقلالية العميقة في تركيبة الدولة السورية.
بمعنى آخر، لأن سوريا تطمح إلى أن تكون دولة / أمة، فإنها اصطدمت وتصطدم، باستمرار، بالغرب، وليس العكس؛ فذلك الطموح يصطدم بإسرائيل، محبوبة الغرب، وبتجزئة سوريا المحمية غربيا، وبسياسات السوق التي يقدسها الغرب، لضمان مصالح الرأسمالية العالمية.
يأمل صاغية بإسقاط الاستبداد في دمشق، لكي يسقط دورها الإقليمي. وهذا هو مربط الفرس عنده. ولذلك، فهو يدقّ طبول الحرب. لكن المفارقة، بالنسبة لصاغية وسواه من الليبراليين المرتبطين بالأنظمة الخليجية، تكمن في أن البديل عن الدولة الوطنية السورية التدخلية، هو لا ــــ دولة، بل إمارات يحكمها التكفيريون الإرهابيون الذين لا يؤمنون بالحدود ولا بالدول، ويرسلون، وسيرسلون سياراتهم المفخخة إلى كل مكان في مشرق سيتعفن فعلا تحت سيطرتهم. ومحل الاستبداد الدولتي، سيكون، هناك، الذبح على الهوية.
بهدوء | الطابور الليبرالي الخامس
Posted in Uncategorized.