بالمجرّد، مصر الآن نسخة (منخفضة الدموية) عن سوريا: الدولة الوطنية والجيش الوطني في مواجهة الإرهاب والفوضى. لكن، بالملموس، هناك العديد من الاختلافات بين الحالتين، تنبغي قراءتها بدقّة، ومنها (1) صفاء الصراع السياسي المصري من المؤثرات المذهبية، وفشل الإخوان في تلوينه بالبعد الطائفي من خلال الهجمات على الكنائس، (2) غياب دولة راعية للإرهاب الداخلي، على حدود مصر؛ فغزة التي توفر ملاذا للإخوان، صغيرة ومحدودة الامكانيات، وليبيا التي تشكل مصدرا لسلاح الإرهابيين، ليست دولة الآن، (3) اصطفاف النخب المصرية إلى جانب الدولة، مما عزل الإخوان وحلفاءهم، سياسيا، (4) توفّر دعم عربي مؤثّر للدولة المصرية، تقوده السعودية التي تمثّل، اليوم، رأس الحربة في الحرب على سوريا.
المعطيان الأول والثاني، موضوعيان. ويثير المعطى الثالث، الإعجاب بوطنية المثقفين المصريين، والأسى حيال تفتت نظرائهم السوريين، وانحطاط بعضهم إلى درك الانخراط في تأييد أو حتى الانضمام إلى الإرهابيين والغزاة. وإذا كانت الخيانة غير قابلة للتبرير، فإن نكوص النخبة السورية، ككل، عن أداء واجبها الوطني، عائد، بصورة رئيسية، إلى ما عاشته من قمع وتهميش لسنوات طويلة. وهو ما أضعفها وعقّد بعضها نفسياً، ودفع بأقسام منها إلى موقف ملتبس من الدولة الوطنية. وهي الإطار الوحيد الممكن لأي مشروع ديموقراطي ـــ تنموي.
هنا، نلاحظ أن الدولة المصرية ربحت الرهان على جدوى ما تمتع به المثقفون المصريون، مناضلين ومفكرين وكتّابا وفنانين وإعلاميين الخ، من حرية ومكانة في مصر لفترة طويلة تعود إلى الثمانينيات. وقد تحوّل هؤلاء إلى قوة يُعتدّ بها في مواجهة مشروع الأخونة، وفي إضفاء الشرعية على الانتفاضة المصرية ضد قوى الإسلام السياسي، ومشروعها المعادي للدولة والثقافة والتنمية والحريات.
شاء النظام المصري الجديد أم أبى، فإنه مضطر إلى التحالف، على نطاق غير مسبوق، مع النخبة الديموقراطية واليسارية والناصرية. وهو تحالف لا يكرر استيعاب مثقفين فرادى في أجهزة الدولة، وإنما يعكس موازين القوى الاجتماعية ـــ السياسية، وحجم المعركة المقبلة مع الإسلاميين. وهكذا، ستجد الفئات الحاكمة في مصر، نفسها، ملزوزة إلى تقديم تنازلات على مختلف الأصعدة؛ في مجال الحريات والعلمنة، كما في المجال الاقتصادي الاجتماعي لمصلحة الفئات الشعبية. وعلينا أن نلاحظ، هنا، أن هذا السياق محكوم بحيوية الحراك الشعبي الذي ما يزال يستقطب قطاعات واسعة من الجماهير. وسيكون مؤسفا للغاية، أن تسير سوريا بالعكس، أي نحو سيطرة الفئات النيوليبرالية، وضمور الحركة الشعبية التي لا تتعزز، في أي بلد، من دون طموحات اجتماعية.
وسط ذلك، يأتي الدعم السعودي للنظام الجديد في مصر، ليخربط الصورة، بما في ذلك خطر قيام الدكتاتورية وتعزيز مواقع الفئات الكمبرادورية المعادية للتنمية واستعادة سياسات أسلمة المجتمع عبر الحركات السلفية الموالية للرياض.
تهدف السعودية، من خلال هجمتها الودية في مصر، إلى ضبط إيقاع التحولات الداخلية، لكن أهدافها الرئيسية تظل جيوسياسية بامتياز، وتتمثل في الآتي: (1) الحفاظ على سياسة السلام المصرية إزاء إسرائيل، (2) توجيه ضربة إلى منافسيها القطريين والأتراك، وأداتهم الإخوانية، في زعامة السُنَّة، (3) استدراك مصر، بوزنها المعروف، وتحويلها إلى حليف حيوي في مواجهة إيران، (4) وفي تعزيز موقع المفاوض السعودي في التسوية المقبلة على مستوى المنطقة.
ازدواجية المعايير الظاهرية، آخر ما يهم الرياض التي تندد بالإرهاب في مصر، وتدعمه في سوريا؛ فالمعيار السعودي، في الحقيقة، واحد. وهو الموقف الفعلي من إسرائيل وإيران؛ فالاستقرار المصري ضروري، بالنسبة للسعوديين، طالما حافظت القاهرة على السلام مع إسرائيل، وطالما يمكن جرّها إلى معاداة إيران أو ـ أقله ـ تلافي التفاهم بين أكبر دولة سنية وأكبر دولة شيعية، ما يعني سقوط المشروع السعودي الخليجي برمته. وفي المقابل، فإن اسقاط النظام السوري يشكّل ضرورة سعودية قصوى، طالما أنه متمسك بالعداء لإسرائيل وبالمقاومة وبالعلاقات مع طهران وحزب الله.
في مصر المفعمة بحيوية الحراك الشعبي، فإن السياسات الداخلية والخارجية، لا تتحدد، اليوم، بالتفاهمات مع رجل القاهرة القوي الآن، الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وإنما بسياق التفاعلات الداخلية التي قد تفضي إلى تغييرات، لن تكون دراماتيكية ـ وإنما أساسية ـــ في السياسة الخارجية؛ فالعلاقات المصرية ـــ الأميركية مرشحة للتدهور أو، أقلّه، للفتور، وتنامي قوة الحركة الوطنية سيؤدي إلى تجميد العلاقات مع إسرائيل، لا تعزيزها، ولن يسمح، بالمقابل، بتكوين مناخ معاد لإيران إلا إذا تورطت الأخيرة بمغازلة إخوان مصر أو حتى العودة إلى احتضان حركة حماس، في سياق التوجه إلى تأييد «صحوة إسلامية» تبيّن أنها مذهبية حتى الموت.
بهدوء | السعودية، مصر وسوريا
Posted in Uncategorized.