بهدوء | إعتذار متأخّر إلى معمر القذافي

«ركزوا رُفاتَكَ في طرابُلُسٍ
كما ركزوا، قديماً، في الرمالِ، لواءا
ما شأنُهُم
إنْ كنتَ شِدتَ مُخَيّماً
أو نالَ شعبُكَ، خبزةً، وثراءا؟
تلك الرصاصةُ
غدْرُ مَن غدَروا …
لو كان صدرُكَ لانتحَوا جبَناءَ …
إفريقيا،
مهدُ الأسودِ ولَحْدُها،
فاهنأْ
لقدْ بلَّغْتَنا الجوزاءا!»
مذ كتبَ شاعري الكبير، سعدي يوسف، هذا النص القصير الكثيف الذي سمّاه «مرثية إلى معمر القذافي ــــ استعادة أحمد شوقي عن عمر المختار»، وأنا أعود إليه، حيناً بعد حين، متفكّراً؛ فسعدي، هذا «الشيوعي الأخير»، لا ينطق عن الهوى، بل عن خزانة فكر ورؤيا وأحاسيس رافقت حركة التحرر الوطني العربية، شعراً ليس كمثله شعر في نقائه الأدبي وصلابته السياسية معاً: معمر القذافي، إذاً، في المأساة الليبية، سليل شهيد الأمة الكبير، عمر المختار؟
لم أحبّ القذافي يوماً؛ كان أداؤه بدوياً، وشطارياً، وفي أحيان كثيرة، هزلياً؛ ثم أنه، في عهد القطبية الأميركية الوحيدة، لم يصمد كما سوريا والعراق؛ بل سعى إلى استرضاء الإمبرياليين؛ تقرّب إليهم، وأغراهم، وقدّم الرشى لزعماء أوروبيين، وكان يظن أنه، بذلك، قد يحافظ على نظامه؛ نظام عجز عن بناء دولة حديثة أو جيش منظّم في مؤسسة عسكرية ذات هيكلية وتقاليد.
لم يكن القذافي مثقفاً بالحد الأدنى اللائق بزعيم؛ ومع ذلك أراد أن يفرض على حركة التحرر العربي والليبيين، كتاباً أخضر مضحكاً لشدة هزاله الفكري، وكان يراوغ، ولا يلتزم بوعوده التي يغدقها، ثم يعود عنها، ولا يترك لأحد فرصة توقّع سياساته وقراراته. وبلغ نفوري منه حداً منعني من الاستجابة لأي من الدعوات الاعلامية للمناسبات الليبية؛ لذلك، حين انطلقت «الثورة» ضد نظامه، لم ألتفت، في البداية، إلى خيوط المؤامرة الإمبريالية على ليبيا؛ اعتقدت أن التغيير سيمنح الليبيين فرصة للتقدم، أنى كانت، هي خير مما كان يبدو لي جنوناً؛ إنما سريعاً، مع اعلان الحرب الإمبريالية ــــ الإسرائيلية ــــ الرجعية العربية ضد ليبيا، أصبحت خيوط المؤامرة تتضح، ولكنني ــــ وأعترف بذلك ــــ لم يتملكني شعور دفاعي عن نظام العقيد، وحتى في لحظة مقتله الدامية الخسيسة، انتابني الاشمئزاز من المجرمين المهووسين، بينما ظللتُ أرى أن نهاية القذافي المأساوية، هي النتيجة المريرة لثقته بالغرب، تلك الثقة التي ظلت تداعب أوهامه حتى اللحظة الأخيرة للترتيبات الغامضة مع جهات غربية، لخروج موكبه من طرابلس في اتجاه منطقة آمنة أو بلد مجاور؛ لكنهم خدعوه، ورصدوه، وأصدروا الأوامر للوحوش البشرية، باصطياده وذبحه والتمثيل بجثته في حفل انفلات غرائز حيوانية، تبين أنها تكتظ في صدور «الثوار» الإسلاميين التكفيريين الذين ظهر، أيضاً، مقدار استعدادهم لأن يكونوا عملاء للإمبريالية.
لا تزال الجريمة الأطلسية ــــ العربية ضد ليبيا، وقد راح ضحيتها أكثر من خمسين ألف مدني، طيّ التجاهل والتناسي عند المثقفين الوطنيين العرب؛ إنما آن الأوان لفضحها. كانت الخطة واضحة: ضرب عناصر الكيان الليبي وتفتيت المجتمع، ونشر الفوضى وتفكيك مؤسسات الدولة والجيش، باستخدام الفاشية الدينية التي اتخذت في ليبيا مساراً خاصاً ارتبط بالتمزق الاجتماعي والعشائري والتدخلات الاستخبارية العديدة؛ والهدف واضح: تحويل ليبيا إلى كانتونات لنهب النفط الليبي، وتحويل الفوضى الليبية إلى منصة إرهابية وزّعت السلاح والمسلحين على نطاق المنطقة، من تونس والجزائر إلى سوريا، ثم إلى مصر، المخطط لإشعال الحرب الإرهابية فيها انطلاقا من الجوار الليبي.
اليوم، يحاول ضبّاط الجيش الليبي، الانتقال من الدفاع عن الذات ضد الاغتيالات الإرهابية، إلى شن الحرب على الإرهاب، وإعادة السلام والاستقرار والتماسك إلى البلد المنكوب؛ هل ينجحون؟ المأمول أن تلعب مصر والجزائر، دورين جريئين في دعم الاتجاه إلى إعادة بناء الجيش الليبي وسيطرته على البلد، وعلى مخازن السلاح، وعلى حقول النفط، ليس من أجل ليبيا فقط. ضرورة الحفاظ على أمن ومستقبل مصر والمغرب العربي، تتطلب تدخلاً عسكرياً عاجلاً في ليبيا، لإلحاق الهزيمة بالمنظمات الإرهابية، وتمكين العسكر من السيطرة على البلاد، والحيلولة دون تحوّلها إلى صومال أخرى؛ ذلك قد يستعيد جزءاً مما كان يوفّره النظام الليبي لمجتمع اتضح أنه غير مؤهل للثورة؛ فالثورة التي لا تتضمن عناصر إعادة بناء الدولة الوطنية، ليست سوى انفلات للغرائز الاجرامية والولاءات المحلية الصغيرة والجهوية والفاشية الدينية والتدخلات الاستخبارية الإمبريالية ونشر الرعب ومنع السياسة؛ وهو ما يشكل حواضن الإرهاب.
كان العقيد القذافي يقول ــــ وإنْ بخطابات مضطربة ــــ حقائق سخرنا منها؛ قال: هي مؤامرة لا ثورة، وعدوان إمبريالي لا عملية تغيير، وتفكيك للدولة يتركها ركاماً ويحطم استثماراتها ويخلق الأرضية لنهب ثرواتها بلا حساب.
كان العقيد يخاطب ــــ بقدرٍ من الجنون ــــ العقلاءَ من أبناء شعبه : ليس «الثوار» سوى جرذان وعملاء، تسيّرهم الاستخبارات الأجنبية، سيهدمون الدولة والسيادة، ويتصرفون، كالقطيع الهائج، تحت تأثير الحبوب المخدّرة!
كنّا نسخر من ذلك الخطاب؛ تبين الآن أنه صحيح، وأننا مدينون باعتذار ــــ ولو متأخر ــــ للعقيد الذي لم نكن نحبه، ولكنه كان يحافظ على سيادة ليبيا ووحدتها واستقرارها.

Posted in Uncategorized.