المعارضة الفلسطينية، المنظمة والمستقلة، سوف تجتمع، غدا، في دمشق، وسوف تنتهي الى »قرارات ضمير«، على رأسها التمسك بالميثاق الوطني الفلسطيني، وإحياء منظمة التحرير الفلسطينية ودورها، والتأكيد، مجددا، على الثوابت.. وغير ذلك من القرارات المتوقعة »للمؤتمر الشعبي الفلسطيني« العتيد.وهناك الكثير من الكلام على أسلوب الإعداد للمؤتمر، ودواخله، و»المحاصصة« التنظيمية في تشكيله، مما يخرب، بالفعل، فاعلية التمثيل الشعبي وجديته. ولكن كل ذلك يظل فرعا؛ فمهما كان مستوى الإعداد لهذا المؤتمر عاليا من حيث الشفافية وخصوبة التمثيل وديموقراطية الآليات، فستظل الجدوى السياسية للمؤتمر هي نفسها، أي انه لن يؤثر على العملية السياسية الجارية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.ومع ذلك، فان مؤتمرا فلسطينيا يؤكد على الثوابت الوطنية، يظل، في النهاية، حدثا معنويا مهما، ولا سيما أنه يحاذي اجتماع السلطة الفلسطينية وأنصارها، في الخامس عشر من الشهر الجاري، لاستنكار الذات أمام الرئيس الاميركي، بيل كلينتون.هنا، ينبغي التأكيد على الاهمية الكبرى للأعمال ذات الطابع الرمزي. ففي الصراعات التاريخية، يكون لهذه الأعمال دور »عملي« في المستقبل البعيد، ويكون لها، في الحاضر، دور سيكولوجي في تخفيف آلام جيل من المناضلين المهزومين الذين لا بد من ان يستمروا في العيش، بالرغم من أفول دورهم السياسي. ولكن، لتمام الفائدة، ينبغي عدم الخلط بين ما هو رمزي وسيكولوجي وبين ما هو سياسي. ومؤتمر دمشق له، موضوعيا، هدف ملائم هو تأكيد الذات والمعنى، او على الأقل، إراحة الضمير. وهو هدف ضروري وممكن التحقيق، ما دام ان الأعمال الرمزية لا يتعلق إنجازها بموازين القوى او بالفعالية او حتى بالامكانية، فهي إرادوية بالكامل. وهذا لا يعني ان »انجازها« ليس مفيدا، بل هو مطلوب اذا كان منجزوها واعين لمأزقهم التاريخي. وعناوين هذا المأزق هي موضوع هذا المقال، الذي نأمل ان يفتتح حوارا.(1)لم نطلق على القوى الفلسطينية المناوئة للسلطة ونهجها السياسي، وصف »المعارضة« جزافا. انها كذلك، لأنها لا تملك مشروعا تاريخيا بديلا. وإصرار البعض منها على »تحرير كامل التراب الفلسطيني« هو شعار وليس مشروعا؛ فالأخير يتطلب تحديدا ملموسا واقعيا للأهداف والوسائل والامكانات. وهذا التحديد، بالذات، لا يترك أمام القوى المناوئة سوى الأعمال الرمزية، او الاحتجاج على التفاصيل في إطار المشروع السياسي للسلطة الفلسطينية، اي مشروع إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع.وتعلن السلطة الفلسطينية انها تتمسك بمشروعها السياسي، فتؤكد إصرارها على الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين والنازحين الى أرض وطنهم. وهي تقترح وسيلة محددة لإتمام مشروعها، هي التفاوض مع اسرائيل، من الموقع الذي تحدده موازين القوى بين الطرفين، وبالاستناد الى تحالفات عربية أبرزها التحالف مع مصر، وفي إطار المرجعية الاميركية والدعم الاوروبي.وبإمكان الناقد ان يفنّد مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة، من حيث ان مآله الفعلي هو اقامة كانتون تحت الهيمنة الاسرائيلية، على رأسه سلطة متعاونة أمنيا. وهو ما يتطابق تماما مع المصالح الاسرائيلية. وسيرد العرفاتيون على هذا النقد بأن هذا الوضع غير دائم، وانه سوف يتطور، شيئا فشيئا، نحو الدولة المستقلة التي يتمسكون بها، ولكنهم يبنونها ضمن الامكانات المتاحة. وهناك، بالطبع، الكثير من المعطيات التي تكذّب العرفاتيين. ولكن السجال، سيظّل، في النهاية، في الإطار نفسه. فمشروع »الدولة الفلسطينية المستقلة« هو المشروع الفلسطيني المعتمد. والعرفاتيون هم الذين »ينفذون« هذا المشروع في سياق سياسي محدد. والآخرون، في النهاية، يقترحون عليهم، وسائل أفضل لتنفيذه، او يشككون، او يعتبرون ان النهج العرفاتي يحطم المشروع نفسه. ولكن النقاش كله، يجري داخل المشروع، وليس ضده. بل ان السلطة الفلسطينية تجر »معارضيها« الى ما هو اكثر من ذلك، بحيث يلاحظون، مثلا، ان تل أبيب تراجعت عن اوسلو بل ان رئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لم يكن صادقا حينما وقع »واي بلانتيشن«!! بل ربما وصل النقد الى إظهار المشاكل التي تنطوي عليها اتفاقية تشغيل مطار غزة!!والأمر، ان هذا النقاش بمجمله يقع خارج السياق. وهو أشبه ما يكون بالتواطؤ الجماعي بالتسلي بما هو فوق الطاولة لإخفاء ما يجري تحتها.(2)لقد أتاحت اتفاقات اوسلو، للسلطة الفلسطينية، السيطرة، بالايديولوجيا والمال والقوة، على الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، بينما تسلمت بتحالفاتها الاسرائيلية والاميركية لتحسين شروط هيمنتها على الشارع الفلسطيني في الاردن، في الوقت الذي أدى فيه اندماج السياسة الفلسطينية بالعملية السياسية الاسرائيلية الداخلية، الى نوع من التطابق في المصالح السياسية، والاقتصادية، والنفسية، بين السلطة الفلسطينية والشارع الفلسطيني في اسرائيل.ثم جاءت المعاهدة الاردنية الاسرائيلية، في خريف العام 1994، لتفتح خطوطا من الاتصالات الكثيفة بين التجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، والأردن، وإسرائيل. وهذه الاتصالات تتم على مستويات عدة، عائلية وسياسية واقتصادية وثقافية. ومن المفروغ منه ان عقدة الارتباط بين هذه التجمعات الثلاثة، تتشكل في »السلطة الفلسطينية« وحولها، التي يخدم التحالف معها، والارتباط بها، طيفا واسعا من الفئات الاجتماعية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة في تلك التجمعات، عدا عن سياق الحركة المفتوح، نسبيا، للجميع، بين أطراف هذا المثلث الفلسطيني الذي يضم: حوالى ثلاثة ملايين نسمة في الضفة والقطاع. حوالى مليونين وربع مليون نسمة في الأردن. حوالى مليون نسمة في »اسرائيل«.أي ما مجمله اكثر قليلا من ستة ملايين نسمة ربما يشكلون ستة أسباع الشعب الفلسطيني.وهؤلاء يعيشون في مدى سياسي واحد، وفي إطار العملية السياسية نفسها. وتجمعهم مصالح واقعية معيشية في تطوير الوضع الراهن الى كونفدرالية ثنائية وثلاثية، تكون مجالا اقتصاديا واحدا، وتتساند فيه »النخب« السياسية الفلسطينية، لتحسين شروطها المحلية، في إطار البنية السياسية الاسرائيلية بوساطة تكوين كتلة سياسية ثابتة مع حزب العمل و»اليسار«، وفي الاردن، عبر تفكيك النظام القائم، واعادة تركيبه »فلسطينيا« »بما يتيح للبورجوازية الفلسطينية التي تسيطر على الاقتصاد الاردني، ان تسيطر ايضا على السياسة الاردنية. وهي عملية جارية، وتحظى بتأييد واسع من الشارع الفلسطيني الذي انفصل منذ وقت طويل عن النضال الاجتماعي السياسي المشترك مع الجماهير الاردنية التي انتفضت عدة مرات، منذ 1989، ولكن وحدها، مما عمق الانفصال السياسي والنفسي بين الكتلة الاردنية والكتلة الفلسطينية، بينما تضعهما التناقضات الطبقية والعملية السياسية الجارية، في مواجهة بعضهما بعضا.(3)أريد ان أذكّر هنا، بان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، خصّ في خطاب الشكر عند التوقيع على اتفاق »واي بلانتيشن«، فلسطينيي لبنان، بالوعد بلقاء قريب. فهل كان يعني انه »يستبشر« بتحولات سياسية، تتيح له العودة الى الإمساك بآليات السيطرة على فلسطينيي لبنان ايضا، أم كان يعني ان هناك خططا لعودة هؤلاء، بعضهم الى المناطق الفلسطينية ومعظمهم الى الاردن، اي، عمليا، الى المدى السياسي الواقع تحت قدرته على الهيمنة؟نحن نرجح الاحتمال الاول، ولا سيما أنه لم يذكر فلسطينيي سوريا، حيث لا أمل له بالتسلل السياسي، او حيث لا توجد لهؤلاء مطالب معيشية. ومع ذلك، فالاحتمال الآخر، لا يغيّر مسار التحليل الذي نعتمده، والذي يريد ان ينتهي الى القول ان المشروع الحقيقي للرئيس عرفات، المشروع الذي وافقت اسرائيل عليه في أوسلو، وترعاه الولايات المتحدة الاميركية، هو تأمين السيطرة السياسية الفاعلة للسلطة الفلسطينية على الفلسطينيين بعامة بحيث يتم ضبط الشعب الفلسطيني ولجمه في إطار سلطة قطرية فاعلة، ومتعاونة سياسيا وأمنيا، وبالتالي، توظيف الشتات الفلسطيني والقدرات الفلسطينية، في سياق الهيمنة الاميركية الاسرائيلية، بعد ان كانا (الشتات والقدرات) في صلب الممكنات الثورية العربية.(4)تنفرد حركة المقاومة الاسلامية (»حماس«)، من بين فصائل المعارضة الفلسطينية، بإدراكها غير المتبلور وغير العلني، ولكن الممارس، للمشروع الحقيقي للسلطة الفلسطينية. ولذا، فهي تسعى الى (1) إظهار السلطة الفلسطينية عاجزة عن القيام بالدور الامني الموكول اليها، وذلك بواسطة عمليات استشهادية نوعية مؤقتة بدقة. (2) التفاهم ضمنا، مع عمان، على مشروع بديل يقوم على العودة الى صيغة الوحدة الأردنية الفلسطينية، الفدرالية (الاندماجية) التي يكون فيها للحركة الاسلامية ككل الثقل الرئيسي الناجم عن دورها الوحدوي، وتمثيلها الاجتماعي في آن. ومن نافلة القول، ان الحماسيين، في نهجهم الضمني هذا، يستبعدون السلطة الفلسطينية، من هذا المشروع، وهو ما يجعله شيئا آخر غير الكونفدرالية السياسية الثنائية المتداخلة مع الكونفدرالية الاقتصادية الثلاثية.و»حماس«، وحدها، من بين الفصائل التي تتساوى، سياسيا، مع السلطة الفلسطينية، من حيث ان لها، عبر الاخوان المسلمين الاردنيين، ثقلا رئيسيا في الاردن، وعبر الحركة الاسلامية في إسرائيل، قدرة على التأثير. وهي تتحرك في المدى نفسه الذي تتحرك فيه السلطة الفلسطيية، وتملك، مثلها، تحالفات وأذرعا محلية. وتزيد عليها، وهذا أمر هام جدا، بأن لها وجودا سياسيا غير مباشر بين الشرق أردنيين، مما يعطيها القدرة على تبني مشروع مضاد لمشروع الحرب الاهلية.وبقدر ما تصبح »حماس« فلسطينية، بقدر ما تفقد إمكاناتها، وبقدر ما تغدو، مثل الفصائل الاخرى، أسيرة الايديولوجية القطرية الفلسطينية، بقدر ما تحد من قدرتها على الفعل السياسي. وهي، للأسف، تعيش، اليوم، صراعا كهذا بين اتجاه اسلامي، وبالتالي، بغض النظر عن الخلافات الاخرى معه، ذي مضمون وحدوي، وبين اتجاه فلسطينوي، يريد ان يحوّل »حماس« الى مجرد معارضة. والاتجاه الثاني بدأ يصبح غالبا. ولكن »حماس« هي، الآن، الحركة السياسية الفلسطينية، الأخصب.(5)فما الخلاصة؟أولا لا يمكن مواجهة مشروع السلطة الفلسطينية، على أساس الايديولوجية الفلسطينوية، وفي إطار هذا المشروع نفسه. وان المواجهة المحكومة بهذين الشرطين، هي معارضة شرط فعاليتها وجودها الفعلي في المكان السياسي الذي هو الضفة الغربية وغزة. ولذلك، قلنا، منذ البداية، ان مؤتمر دمشق، يندرج في إطار الاعمال الرمزية لا السياسية. ولذلك ايضا، ميّزنا »حماس« عن الفصائل الاخرى بما هي حركة تشهد صراعا بين فعل القطيعة (الايديولوجية الاسلامية والمشروع السياسي الخاص) وفعل المعارضة (في الاطار الايديولوجي والسياسي الفلسطينويين ولكن في المكان نفسه).ثانيا ان حركة الاتصال بين فلسطينيي الضفة وغزة والأردن و»اسرائيل«، هي حقيقة قائمة ينبغي التعاطي مع نتائجها، وخصوصا بالتداخل مع البنية الاردنية، السياسية والاقتصادية والديموغرافية، مما يضع الوطنيين الفلسطينيين، هنا، أمام خيار وحيد، هو الاندماج في الحركة الوطنية الأردنية، لمواجهة استخدام »الفلسطينيين«، جسرا للتطبيع، وأداة لتنفيذ مشروع »الوطن البديل«، وذلك في إطار البحث عن مشروع سياسي واقعي (اي يأخذ بعين الاعتبار الشروط الواقعية للنضال المشترك) لتفعيل الوحدة الاردنية الفلسطينية في سياق وطني ديموقراطي، يكون بديلا عن المشروع الكونفدرالي المتأسرل والمعادي للجماهير الشرق أردنية. ونحن، هنا، نتحدث عن بديل متكامل يوحد نضال الوطنيين الأردنيين والفلسطينيين في إطار مشروع وطني واحد.ثالثا لا يستطيع الوطنيون الفلسطينيون (واللبنانيون) التخلي عن مسؤولياتهم ازاء المطالب المعيشية لفلسطينيي لبنان، بما ينأى بهؤلاء عن التأثيرات السياسية الضارة بالحركة الوطنية الفلسطينية وبلبنان.رابعا ان الوسيلة الأمثل لتحقيق نوع من الفعالية للأعمال المشتركة للفصائل المعارضة، هو المكاشفة، والتفكير بصوت عال، والبدء بحوار حقيقي، ديموقراطي وعلني.