بخصوص إسرائيل…

*
حققت إسرائيل خلال الـ15 عاماً الأخيرة اختراقاً قياسياً على مستوى النمو، وذلك عبر نهوض القطاع القيادي في اقتصادها المعولم، قطاع المعلومات والتقانة، وخصوصاً منها العسكرية والأمنية، ولدينا الآن حقيقة لا مجال للتقليل من أهميتها ودلالاتها، وهي نجاح إسرائيل في ركوب موجة ما بعد الحداثة العلمية ــــ التقنية ودخول نادي المنافسة العالمية في ثلاث «صناعات»: المعلوماتية والحرب والزراعة الحديثة. وهو ما عجز أي بلد عربي عن تحقيقه. وإذا كان صحيحاً أن الاقتصاد الإسرائيلي هو اقتصاد مدعوم من الخارج، فإن ذلك الدعم يختلف نوعياً عن سواه المعهود في بلدان العالم الثالث، إذ إنه لا يُنفَق على مشاريع بنى تحتية أو إعانات اجتماعية، بل ينصبّ معظمه في البحث العلمي وتطوير التقانيات والتصنيع العسكري. وقد هضم الإسرائيليون أو طوّروا أبحاثاً في الاتصالات ومعالجة المعلومات والحواسيب والذكاء الاصطناعي‏‏ وهندسة الجينات ‏وكيمياء المواد واليوليمرات وعلم الضوء والطيف وعلوم الفضاء والإلكترونيات والمياه والطاقة… ويتطلب تطوير هذه الأبحاث، واستخدامها في التطبيقات التقنية، بنية تحتية متقدمة من الجامعات ومراكز البحث والمختبرات والمشاغل والمشاريع والكادرات. وأما المفصل الرئيسي في كل هذه البنية، فهو المؤسسة العسكرية. وبسبب هذه البنية بالذات، أسست شركتا مايكروسوفت وإنتل للبرمجيات الحاسوبية مراكز متقدمة لها في حيفا.
وتحتل إسرائيل موقع ثامن مصدّر للأسلحة والتقنيات العسكرية والأمنية على مستوى العالم. والزراعة الإسرائيلية، على رغم صغر المساحات الزراعية ومشكلة المياه، ذات كفاءة عالية. وهي توفّر الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وتصدّر منتجاتها بكثافة للأسواق العالمية. والسبب وراء ذلك يكمن في تطوير التقنيات الزراعية التي تُعدّ هي أيضاً مجالاً خصباً للصادرات.
لكن، لكي نضع الاقتصاد الإسرائيلي في حجمه الفعلي على المستوى الدولي، علينا أن نلاحظ أن إسرائيل لا تزال تلهث وراء إيرلندا، أحدث الاقتصادات المعولمة في أوروبا الغربية. كذلك، فإنها تشكو، حتى قبل الأزمة المالية العالمية (وفقاً لبيني لاندا وشموئيل إيفن، 2007) من ثلاث مشكلات رئيسية، هي انخفاض نسبة المشاركة في العمل بحدود 10 نقاط عن الاقتصادات الرأسمالية، وهو ما يرتبط بالمشكلة الثانية المتمثلة بضعف الاستثمارات وتأخر القطاعات الصناعية التقليدية، ورزوح حوالى ثلث السكان تحت خط الفقر والتهميش.
أحدثت قفزات عولمة إسرائيل تغييرات جذرية في بنيتها الاجتماعية ــــ السياسية. فالفئات المسيطرة على القطاع القيادي المستحدث في الاقتصاد لم تعد معنية بالإقليم، بل بالانخراط في السوق العالمي. وهي استعادت نظرة صهيونية استئصالية إلى الفلسطينيين في الضفة وغزة، بل في مناطق 48، الذين طالما مثّلوا جيش العمل الرخيص للرأسمالية الإسرائيلية التقليدية.
قطاع المعلوماتية والتقانة لا يحتاج إلى أيد عاملة كثيفة أو نصف ماهرة، بل إلى عاملين مؤهلين تأهيلاً عالياً يتخرجون، غالباً، من الجيش إلى سوق عمل تغيّر جذرياً. ولم يضرّ ذلك بقوّة العمل العربية في إسرائيل والضفة فقط، بل بقوة العمل اليهودية نفسها وتركيبتها ودورها، ما أدى إلى ضمور اليسار السلطوي والشعبي، بكل تدرّجاته، واتجاه مجتمع العمل الجديد النخبوي نحو اليمين والعنصرية، وسط سيادة النزعات النيوليبرالية التي قطعت مع التقاليد القديمة للصهيونية الاجتماعية. وقد رسمت انتخابات 2009 لوحة سياسية من ألوان الطيف اليميني، سمح لغلاة العنصريين تكوين ثقل نوعي في الكنيست والحكومة.
حققت إسرائيل قفزاتها تلك على مرحلتين: تحضيرية بين عامي 1996 و2003، ثم اختراقية بين 2003 وحتى الآن (مع ملاحظة آثار الأزمة المالية العالمية منذ 2008). وسنلاحظ هنا، أن التطورات الموصوفة أعلاه انعكست في المجرى العام للسياسة الإسرائيلية كالآتي:
أولاً، الاتجاه نحو الانكفاء الإقليمي المتمثل في:
1) التراجع المستمر عن روح اتفاقيات أوسلو 1993 مع الفلسطينيين ومعاهدة وادي عربة 1994 مع الأردن وتفاهماتها وخططها، حيث أصبحت بلا معنى، بالنسبة للمصالح الإسرائيلية، إنشاء كيان فلسطيني مستقر ضمن كونفدرالية اقتصادية ثلاثية تشمل الأردن أيضاً. فلم يعد الإقليم هو الفضاء الملائم للاقتصاد الإسرائيلي المعولم، ولم تعد العلاقات الاقتصادية المباشرة مع الجوار العربي في المرتبة الأولى من اهتمامات شركات إسرائيلية تقوم ــــ شاء العرب أم أبوا ــــ ببيعهم، عبر السوق المعولم، منتجاتها المتعلقة بترجمة وتوضيب برمجيات مايكروسوفت وإنتل إلى العربية، بل إلى جميع اللغات التي تكتب من اليمين إلى اليسار، بما فيها اللغة الفارسية!
2) وفي إطار الانكفاء الإقليمي ذاك بالذات، تبلورت إمكانية إجراء انسحابات أمنية من طرف واحد، كما في جنوب لبنان (بغض النظر عن تأثير عامل المقاومة، ودون انكاره)، وغزة، الصغيرة والمكتظة والخطرة، والانفصال عن التجمّعات السكانية في الضفة الغربية خلف الجدار الاستيطاني الذي تكرّس واقعياً كخط حدودي أمني، يدفع بفلسطينيي الضفة، تحت ضغط تقطيع أوصال مناطقهم وتحطيمها اقتصادياً، إلى هجرة ناعمة مستمرة نحو الأردن، حيث يسمح التداخل الديموغرافي والسياسي والقانوني بمواصلة عملية التهجير من دون إجراءات دراماتيكية.
ثانياً، الاتجاه نحو الانكفاء الداخلي العنصري المتمثّل في شعار «يهودية الدولة» وإعادة طرح مصير فلسطينيي الـ48 على بساط البحث وحتى إمكانية الانفصال (أو التهجير).
ثالثاً، وفي هذين السياقين اللذين يفرضان التخلّص من الفلسطينيين المعتبرين، إسرائيلياً، كتلاً سكانية فائضة، يغدو مشروع الوطن البديل مطروحاً بإلحاح على جدول الأعمال. فالانفصال والتهجير لن يستقرا من دون موئل للمشروع السياسي الفلسطيني الذي لا بد من نقله إذاً إلى شرقيّ النهر.
رابعاً، الاتجاه إلى الحرب الدائمة. وقد حدثت في العقد الأخير من عولمة إسرائيل ثلاث حروب رئيسية وسط عنف إسرائيلي شديد لم ينقطع يوماً:
1) الحرب الطويلة ضد انتفاضة الأقصى (2000 ــــ 2003) بهدف كسر التطلعات السياسية للسلطة الفلسطينية وإعادة تشكيلها كمنظّمة بلدية وأمنية تابعة.
2) الحرب المدمرة ضد لبنان عام 2006، وكان لهذه الحرب أهداف أميركية تتعلق بلبنان وبالمشروع الشرق أوسطي.
3) الحرب المفرطة في استعمال قوة النيران لتدمير غزة ووقف نشاط المقاومة المنطلق منها. الحرب الإسرائيلية والعنف ضد الفلسطينيين والعرب لن يتوقفا. فقد أصبح هذان أكبر مختبرات تطوير تقنيات وصناعات الأمن والعسكر، تلك التي تؤمّن أحد مجالات المنافسة الإسرائيلية الأساسية على المستوى الدولي.
خامساً، وإذا كانت الاتجاهات السابقة تمثّل تعبيراً عن أجندة إسرائيلية تطمح، وتحقق، قدراً من الاستقلال عن واشنطن، فإن ملف سوريا (ولبنان) ظل، بالنسبة لتل أبيب، يسير وفق أجندة المشروع الأميركي في المنطقة وضمنها. بمعنى أن السياسة الإسرائيلية إزاء سوريا، حرباً وسلماً، ترتبط بالموقف الأميركي حصراً. وقد أفادت سوريا من ذلك في تلافي الحرب، والصمود السياسي، وتعزيز موقعها الإقليمي جراء فشل الأميركيين. لكن إسرائيل أفادت هي الأخرى من خلال الاتجاه إلى خفض سقف ما تسميه «تنازلات» ممكنة لسوريا في الجولان. والجولان هو القضية الوحيدة التي لا تزال معلّقة من حرب حزيران. ففي الواقع، أن الإجراءات الإسرائيلية الأحادية قد رسمت بالفعل خريطة جديدة للضفة الغربية. وهي خريطة لا تسمح بإنشاء كيان سياسي قابل للحياة من دون ربطه،

لم تعد العلاقات المباشرة مع الجوار العربي في مقدمة اهتمامات الشركات الإسرائيلية

ديموغرافياً واقتصادياً وسياسياً، بالأردن، وأمنياً بإسرائيل.
«السلام» على المسار الفلسطيني ليس وارداً إذاً من وجهة نظر مصالح إسرائيل التي لا مانع عندها من جولات مفاوضات جديدة تسمح لها بكسب المزيد من الوقت لإنجاز برنامجها على الأرض. أما السلام على المسار السوري، فيرتبط بالملفات الأميركية في المنطقة: إدارة العراق لما بعد الانسحاب، وإيران كقوّة إقليمية ونووية، وأمن الخليج والجزيرة العربية التي بدأت تشتعل في جنوبها. ومن المؤكد أن دمشق، التي تتنفس الآن من رئة إقليمية كبرى بحجم تركيا، لن تنسحب من دورها الإقليمي من أجل ترتيبات انسحاب ناقصة ومعقدة من الجولان.
لكن التحولات الكبرى لعولمة إسرائيل التي تجعل «السلام»، بالنسبة إليها، غير ذي معنى حتى وفق المنظور الساداتي، وضعتها في ثلاثة مآزق استراتيجية: يكمن الأول في انتقالها إلى النيوليبرالية وقيمها الفردية والأنانية، وتمزّق لحمتها الاجتماعية التي لا غنى عنها للغيتو المحارب. وبالنتيجة، فقد أظهر الجيش الإسرائيلي، رغم تقدم قدراته التقنية، قدراً كبيراً من التفكك العقيدي وتراجع القدرة القتالية في الميدان، كما تجلى في حرب 2006 التي بيّنت أيضاً أن المجتمع الإسرائيلي، رغم يمينيته، ليس مستعداً لتسديد فاتورة مواجهة فعلية طويلة. ويكمن المأزق الثاني في تصاعد حساسية المصالح الإسرائيلية لموقف الرأي العام العالمي، ويكمن الثالث في تشقق الإسرائيليين، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، على أسس عنصرية. وهو ما يهدد بتحويل إسرائيل إلى كيان شرق أوسطي فعلاً.
* كاتب أردني

Posted in Uncategorized.