في السنوات الاخيرة، اتضحت معالم الاستراتيجية الامبريالية القديمة.. الجديدة إزاء المشرق العربي، وفي سيرورة تنفيذ الاستراتيجية تلك، اتضح، ايضا، حجم القوى الاقليمية المعادية للقومية العربية ومدى الخطر الجدي الذي تمثله على مستقبل الوجود القومي العربي.ان الامبريالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة، تشن، منذ انتهاء الحرب الباردة، هجوما واسع النطاق ومكثفا، بهدف تحطيم كل الاحتمالات التي تهدد المصادر النفطية، والسيطرة المباشرة على هذه المصادر، ويتخذ هذا الهجوم عدة أشكال منها العدوان المستمر على العراق بهدف تحطيمه كقوة مستقلة، وتمزيقه والسيطرة المباشرة على دويلات الخليج العربي وفرض الاستسلام الشامل على دول الطوق امام »اسرائيل« بما في ذلك تصفية القضية الفلسطينية وتفكيك المشرق العربي وتركيبه في إطار »اسرائيل الكبرى«.وهناك العديد من الكتّاب الذين يعتقدون بأن الأمة ستنجو في النهاية. وتُشيع العديد من الكتابات أوهاما يمكن نسبتها الى حتمية قومية. ونحن نعتقد ان هذه مجرد أوهام. فاتجاه الأحداث الراهن يمكن ان يؤدي فعليا الى سقوط المشرق العربي وانهياره وتبدد القومية العربية، وليس من المستحيل ان ينتهي الأمر بالعرب الى ان »يخرجوا من التاريخ« نهائيا، وان ظلوا في الجغرافيا بقايا أمة وشتاتا تحت سيطرة القوى الاقليمية.هذا احتمال، والاحتمال الآخر هو ان تتمكن القوى الاجتماعية العربية الحية من اعادة بناء حركة التحرر القومي العربية، على قاعدة تحالف إجتماعي سياسي جديد قادر على صد المشروع الاميركي الصهيوني.وفي مواجهة هذا المشروع الاستعماري لا يوجد سوى مشروع واحد فعال، ونعني مشروع اقامة دولة قومية موحدة في المشرق العربي تكون قادرة على حل مشكلتيّ التنمية المستقلة والديموقراطية، بما يمكنها من إدامة النضال القومي ضد الكيان الصهيوني وقوى الاستعمار.فهل القوى الوطنية العربية الراهنة، القومية واليسارية مؤهلة لحمل هذا المشروع المضاد؟في الإجابة على هذا السؤال نقول: ان تغييرا نوعيا طرأ على بنية تلك القوى، في السنوات الاخيرة، بحيث تجمد نموها، وضعف تأثيرها الجماهيري، وفترت حيويتها، واتجهت، للتعويض عن ضعفها المتفاقم، الى التموضع، بأشكال وألوان مختلفة، في اطار التوافق مع القوى التقليدية على »عقلانية« الوضع العربي الراهن، بما في ذلك الإقرار بشرعية التبعية للرأسمالية العالمية، والقطرية، وتجميد الصراع مع الصهيونية، وتطبيع العلاقات معها، والقبول المستلب بالايديولوجية البرجوازية، اي ايديولوجية اقتصادية السوق، وامتيازات النخبة، والجوع والبطالة للأغلبية التي يجب، حسب رعايتها بأعمال الخير والرأفة الحكومية وذاك مع قدر معين، مقولب وجزئي من الأفكار الليبرالية حول »الديموقراطية المحدودة« و»حقوق الانسان«.لقد استسلمت القوى القومية واليسارية العربية للايديولوجية البرجوازية، وتعبر عن هذا الاستسلام بأفكار وممارسات سيكولوجية الهزيمة، حيث غدت قيم التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والوحدة العربية وتحرير فلسطين »أوهاما« او، في أحسن الاحوال، احلاما!ومع ذاك لم تتخل القوى تلك، عن »يافطاتها« وعن خطاب ملغز وإنشائي هدفه تبرير استمرار وجودها، واستمرار هيمنتها على أنصارها، الا انه من اليسير على الناقد ان يبين ان اليافطات تلك لا تعني شيئا في الواقع. وان هناك، في العمق، قبولا شاملا ونهائيا بانتصار العدو واستعدادا لقبول قيمه وأفكاره وثقافته.. على نحو ما وصفه ابن خلدون من اتجاه المغلوب الى تبني ثقافة الغالب.فهل تستطيع الحركة الاسلامية، حمل برنامج المواجهة الضروري قوميا؟وجوابنا: هو: لا.. للأسباب التالية.أولا: ان الحركة الاسلامية، ككل، لا تتبنى برنامجا معاديا للرأسمالية وهي تؤمن باقتصاد السوق، وتقدس الملكية الخاصة للرأسمالية، وعليه، فان عداءها للغرب الرأسمالي في جوهره، عداء سياسي ثقافي، ولا يصل عند اكثر الاسلاميين »تطرفا«، الى معاداة الرأسمالية ونظامها. وعليه فان الحركة الاسلامية لا تستطيع، ابتداء ان تنهض بمهام بناء اقتصاد وطني مستقل، غدا شرطه الاساسي، الخروج من النظام الرأسمالي العالمي؟ثانيا: ان الحركة الاسلامية، ككل، لا تتبنى برنامجا ديمقراطيا تعدديا وان اضطرت الى قبوله هنا او هناك وهي بالتالي، عاجزة، ابتداء من بلورة إجماع شعبي قائم على تحالف اجتماعي ديموقراطي فعال. وهو شرط لا غنى عنه لأي إنجاز وطني حقيقي.ثالثا: ان الحركة الاسلامية، بوصفها تنظيمات وأحزابا، ما تزال عاجزة عن إنتاج ثقافة اسلامية عصرية، تقطع مع الأنموذج التقليدي للعقلية السلفية، وتقدم قراءة فعالة للحاضر والمستقبل.رابعا: ان الحركة الاسلامية في واقع الأمر، تنقسم الى اتجاهين كبيرين، أولهما تموضع في الواقع الكولونيالي، في موضع المعارضة الراضية وحاله في هذا كحال القوى القومية واليسارية العربية وثانيهما انتهى الى ارهابية انتقامية بلا أفق، معزولة اجتماعيا، وتصب، فعليا، في مشروع تفتيت وتدمير البنى العربية.خامسا ان التنظيمين الاسلاميين المقاومين: حزب الله (لبنان) وحماس (فلسطين) يشكلان جزءا من آليات المقاومة الراهنة، ولا يتضمن خطابهما او فعاليتهما، بديلا مجمعيا استراتيجيا. فما البديل؟لئن اتفقنا على ان القوى الوطنية العربية الراهنة »القومية واليسارية والاسلامية« عاجزة عن حمل برنامج المواجهة مع المشروع الامبريالي الصهيوني، فعلينا الاعتراف بأن البديل لا يمكن استيراده من القمر، بل هو موجود في قلب تلك القوى، متجسدا في المناضلين الذين لم تستهلكهم الهزيمة، سواء أكانوا قوميين او يساريين او اسلاميين.وعلى هؤلاء تقع مهمة بناء ايديولوجية التوحيد القادرة على حشد القوى الوطنية الشعبية في إطار تحالف صلب وفعال، ويكون هو البديل التاريخي القادر على الخروج من المأزق القومي الذي نعيشه باستسلام قد يقودنا الى الكارثة الكبرى، وهي تحطيم الوجود الفعلي، لا المشروع القومي العربي وحسب، بل وللأمة العربية نفسها.وايديولوجية التوحيد، ليست توليفا للأيديولوجيات الأربع »المنتشرة« في الثقافة العربية المعاصرة، »اليسارية والقومية والاسلامية والليبرالية« بل هي نظام فكري توحيدي يستجيب للضرورات التي يطرحها الواقع العربي… وهذه الايديولوجية، المطلوب بناؤها وتطويرها، تقوم، في رأينا، بالحتم، على الثوابت الفكرية للتحالف الوطني الشعبي الذي هو، الآن، محض امكانية تاريخية.نحاول، ابتداء ان نقترب من المعنى الأوليّ لهذا التركيب: وطني شعبي، قبل ان نعالجه بوصفه مفهوما اقترحه المفكر الايطالي أنطونيو غرامشي، وطوره، لأغراض بناء ايديولوجية جديدة للتحرر الوطني، المفكر المصري سمير أمين.لا تترادف الكلمتان في وطني شعبي، بل تندمجان في تركيب يقول، للوهلة الأولى، ان هناك وطنيتين إحداهما شعبية والاخرى نخبوية برجوازية، وان التركيب، هنا، يميز الأولى عن الثانية. وهذا صحيح ابتداء، ولكنه لا يفيدنا كثيرا، فمنذ ان تحولت الرأسمالية الغربية الى امبريالية تهيمن على نظام رأسمالي عالمي يتشكل من مراكز امبريالية وأطراف تابعة، لم تعد الوطنية البورجوازية ممكنة وأضحى العداء للرأسمالية ركنا أساسيا من أركان الوطنية. ان الموقف المؤيد للرأسمالية في الداخل، يقيم الاساس للتبعية للرأسمالية الامبريالية، وبالتالي فهو، بالضرورة، موقف لا وطني. اذا، يكفي ان نقول: »وطني« للإشارة الى موقف معاد للرأسمالية، فما هي ضرورة هذا التركيب: وطني شعبي؟نقول: وطني، هنا، بمعنيين، هما:أ يشير الأول: إلى كل العناصر المكونة للذات الوطنية، ف»وطني« هنا، تعني ضد ما هو فئوي، سواء أكان طائفيا او قطريا او اقليميا او ايديولوجيا »يساريا او اسلاميا او قوميا« او جهويا او ثقافيا »عصرانيا او سلفيا« الخ.ب ويشير الثاني: الى مقومات السيادة والاستقلال، ف»وطني« هنا، تعني ضد ما هو أجنبي استعماري امبريالي واذاً رأسمالي.ونقول: شعبي، هنا بالمعاني الآتية:أ يشير الأول: الى أرجحية حق السيادة للأغلبية ضد النخبة وامتيازاتها.ب ويشير الثاني: الى أرجحية مصالح الأغلبية ضد مصالح البورجوازية.ج ويشير الثالث: الى أرجحية الحقوق السياسية للأغلبية ضد الاستبداد البيرقراطي في كل صوره.على هذا، فان الموقف الوطني الشعبي يتحدد فيما يلي:إنه الموقف الذي يرفض: (أ) الفئوية والتفتيت والتجزئة (ب) والتبعية للامبريالية (ج) وبالتالي الرأسمالية (د) والمصالح النخبوية، سواء أكانت ناجمة عن الموقع البيرقراطي او عن الملكية الخاصة (ه) والاستبداد.ولكن هذا تحديد بالنفي، فما هي عناصر التحديد الايجابي للموقف الوطني الشعبي؟يركز سمير أمين على ان للتحالف الوطني الشعبي هدفا محوريا، هو فك الارتباط بالخارج. وهذا لا يعني، عنده، اتخاذ موقف انعزالي انطوائي، اي لا يعني إلغاء العلاقات الخارجية، بل يعني اخضاع العلاقات الخارجية للمصالح الوطنية. وفك الارتباط، عند سمير أمين، يرتبط بعمليتين هما:أ التنمية الوطنية المتمحورة حول الذات.ب الديموقراطية.والعملية الأولى، تتضمن استنفار القدرات والامكانات الوطنية وحشدها في مشروع تنموي وطني يعتمد على: (أ) وقف هدر الموارد الوطنية، والافادة منها، وتشغيلها الى الحد الأعلى »وخاصة في المجال الزراعي« (ب) تطوير وتوليف المعارف العلمية والتقانات الزراعية والصناعية والادارية، محليا، وبالعلاقة مع الاحتياجات المحلية (ج) التخطيط الوطني المرن القائم على تصور واقعي لأنموذج خاص محلي يرتبط بالاحتياجات والامكانات المحلية، لا بقوالب جاهزة لأي نموذج أجنبي (د) الانفتاح الإيجابي، اي إخضاع العلاقات الخارجية، وتوظيفها، بما فيه مصلحة التنمية الوطنية، وليس العكس.والعملية الثانية تعني ديمقراطية سياسية واجتماعية جذرية ومشاركة شعبية فعلية في اتخاذ القرارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتنفيذها، ونبذ الامتيازات »السياسية والاقتصادية«، وتحقيق المساواة الممكنة في توزيع المردود التنموي.