ناهض حتّر
يهود اولمرت سياسي من الدرجة الثالثة، وهو خائف. ويترأس حكومة مرتبكة، ليس عندها خطة استراتيجية لمواجهة المستجدات الاستراتيجية في الصراع العربي – الاسرائيلي، سوى الوسائل القديمة البالية: القصف الاجرامي للمدنيين والبنى التحتية في لبنان، لكن، هنا، تبطل فعالية هذه الوسائل، طالما ان المقاومة اللبنانية تستطيع الصمود على الارض، والرد على القصف بالقصف، وفي العمق. وهو ما يثير هلع المجتمع الاسرائيلي الذي يتوجب عليه، هذه المرة، ان يدفع الثمن.
لقد اعتادت اسرائيل على معادلة مفتوحة سهلة في أية مجابهة: استخدام آلة القتل والدمار الاستراتيجية من دون حدود، ومن ثم تقديم شروط للتنفيذ القسري من قبل الخصم العربي. هذه المرة- على الرغم من الآلام التي يعيشها اللبنانيون تحت ويلات العدوان- تظهر هذه المعادلة التقليدية، مغلقة. فلا القوات الاسرائيلية تستطيع التصادم البرّي في جنوب لبنان، ولا تستطيع ان تقدم الحماية للاسرائيليين المطلوب منهم الآن تقديم تضحيات من اجل السياسات الاستعمارية الاسرائيلية، وهكذا، بدا أولمرت وهو يخاطب الكنيست، كاريكاتوريا ويدعو للرثاء، وهو يستعيد الاسلوب السابق في تقديم «الشروط».
تواجه اسرائيل في لبنان جداراً صلباً يتكون من منظمة سياسية – عسكرية عالية الجهوزية والجدية والتسليح، تستند الى قاعدة اجتماعية متماسكة معبأة وقادرة على احتمال التضحيات بلا حدود. وهي تدعم معركة دفاع عن وجودها الداخلي في لبنان، وحجم هذا الوجود ودوره اللبناني والعربي، وبالتالي، فإن مطالبة أولمرت بتطبيق القرار 1559 الداعي الى تفكيك حزب الله، هو مجرد جعجعة فارغة، عداك عن انه لا- اخلاقي. فماذا عن القرار 194 «عودة اللاجئين» و242 «الانسحاب الى حدود ال¯ 1967».
لم يستطع العدوان الاسرائيلي حتى الان، ومن الواضح انه غير قادر على الحاق أذى ذي مغزى في البنى التحتية لحزب الله، وما يزال هذا الحزب، وسيظل قادرا على الردّ النوعي على القصف بقصف ، بينما هو مستعد ، بصورة غير مسبوقة، لمنع الجيش الاسرائيلي من اعادة احتلال جنوب لبنان. وهكذا فقد اضطر اولمرت الى الخطاب الانفعالي، واضطر الى تخصيص معظمه الى استدراج عواطف الاسرائيليين، و«تطمينهم»، والتذكير بأن المجتمع الدولي يقف وراء اسرائيل، والدعوة الى الوحدة الوطنية. وهذه كلها بضاعة تصلح للاستهلاك الداخلي المؤقت، ولكنها لا تغير شيئاً في المعادلة الجديدة للصراع، تلك التي عبّر عنها، الأحد الماضي، الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، في خطابه الهادىء الواثق الذي اعلن، خلاله، بوضوح، جهوزية قواته لمجابهة طويلة، ووضع شرطاً واقعياً وعادلاً وانسانياً للهدنة هو تبادل الأسرى وهي النتيجة التي ستتوصل اليها المعركة الحالية في النهاية.
وكل المداخلات الدولية والعربية التي تخرج عن السياق الذي حدده السيد نصرالله، هي مداخلات غير واقعية، ليس فقط لان حزب الله، يملك القدرة على منع تطبيق القرار المشؤوم ،1559 بل لان تطبيق ذلك القرار، يعني بصورة دراماتيكية، المعادلة الداخلية اللبنانية. ومن الواضح ان ذلك غير ممكن، اللهم إلا في سياق حرب اهلية لبنانية لا يبدو ان المجتمع اللبناني جاهز لخوضها، ولا يبدو ان التيار الحريري (وحلفاءه) قادر على حسمها. كما ان تطبيق هذا القرار ليس ممكنا من دون اسقاط النظام السوري وهزيمة الجمهورية الاسلامية الايرانية. وكل هذه المهمات تقع خارج الامكانات الاسرائيلية.
يهدد اولمرت وحكومته وحلفاؤه الدوليون والعرب، يعيشون في الماضي، وما زالوا عاجزين عن ادراك الجديد الاستراتيجي في الصراع العربي – الاسرائيلي. ففي السابق – مرة اخرى – كانت الجهود الدولية العربية تصب على تنفيذ المطالب الاسرائيلية او قسماً منها في سياق عدوان اسرائيلي كاسح يقف الطرف الآخر امامه مشلولاً. هذه المعادلة لم تعد قائمة. ولا بد من البحث عن معادلة جديدة هي التي رسمها السيد حسن نصرالله.
يقول اولمرت ان الاسرائىليين لا يمكنهم العيش تحت تهديد الصواريخ. نعم ولكن لماذا يمكن للعرب العيش تحت الاحتلال وتهديد الاحتلال والقصف والعدوان؟ من الآن وصاعداً، على الاسرائيليين ان يدركوا ان «العين بالعين والسن بالسنّ والبادىء أظلم» وفي ضوء هذا المستجد الاستراتيجي على الاسرائىليين ان يدركوا أنه آن الأوان للتفاوض على أسس جديدة تقوم على توازن الرعب.
حالما تقرر قوة عربية متماسكة وجادة وذات جهوزية، ان تواجه العدوان الاسرائيلي، فان هذه الاداة التقليدية «العدوان» اصبحت من خشب، بالمقابل، فان كل مواجهة متوازنة مع اسرائيل، تظهر فورا، هشاشتها الاستراتيجية من حيث الجغرافيا والديمغرافيا والتكوين الداخلي للدولة العبرية المستمرة في الوجود، فقط، بفضل الاستسلام العربي.
الخسائر الفادحة في الشهداء والجرحى والبنى التحتية. هذا هو ثمن الحرية الذي لا بد من تسديده كاملا. وعلينا ان نتذكر، دائما، ان الامم الحيّة لم تكتسب سيادتها وتقدمها وحريتها من دون تقديم ضحايا بلا حدود، فلا نواح في الصراعات التاريخية على الضحايا، بل استعداد للموت من اجل الحياة. وبالمحصلة، لم يقدم العرب، حتى الآن، في الصراع العربي – الاسرائيلي، اكثر مما قدموه في حوادث السير او في حروبهم الداخلية – الاهلية.
اننا ندخل مرحلة جديدة، استراتيجيا، في الصراع مع اسرائيل والولايات المتحدة. يبدأ من نقطة الضعف الرئيسية في التحالف الاستعماري – وهو اسرائيل – لكنه يمتد الى العراق، حيث ينتظر ان يبدأ الشيعة العرب العراقيون، انتفاضة ضد الاحزاب الطائفية، ويدخلون، بكل ثقلهم السكاني والاجتماعي والسياسي، الى مشروع اعادة تأسيس المقاومة الوطنية العراقية، واخراجها من مأزق الانكماش الطائفي، وهيمنة الايديولوجية الفاشية لمنظمة «القاعدة».
ويمتد الى فلسطين، حيث ينتظر ان يلعب الانموذج اللبناني دورا تربويا في استكمال جهوزية المقاومة، والارتباط بالجماهير، والجدية، والالتزام بالكفاح في اطار سياسي واقعي ومنضبط انها بداية جديدة للمقاومة في لبنان، وفلسطين، والعراق. وهي معركة واحدة لدينا اليقين بانها تعيد تجديد نفسها الآن في اتون المواجهة الاستراتيجية بين حزب الله والعدوان الاسرائيلي.
وهذه المعاني، كلها، يدركها اولمرت، وترعبه، وسيحاول بدعم من سادته الامريكيين وبغطاء دولي وعربي، ان يدمرها، طالما ان بقاءها وانتصارها سوف يؤسس لمرحلة تحررية جديدة.
مأزق، اسرائيل، الآن، أنه ليس أمامها لتجاوز المأزق اللبناني سوى التفاوض على تبادل الاسرى. لكن ذلك يعني تحديداً، الانتقال من مرحلة الهجوم الى مرحلة الدفاع. وسيكون لذلك ثمن باهظ داخل فلسطين. ويعرف الامريكيون ان ثمنه الابهظ سيكون في العراق.
خطاب اولمرت – على عنجهيته – كان خطاب هزيمة..
وخطاب نصر الله- على هدوئه وتواضعه- كان خطاب انتصار.