ناهض حتّر
الحرب، في النهاية، هي الحرب على العقول والقلوب. ومحصلتها هي الوعي التاريخي بالذات القومية ، ومكانتها في العالم، وآفاق تطورها، نحو الارتكاس او نحو التقدم.
الحروب لها اثمان باهظة. لكن «للسلام» الذي يستبعد الحرب، أثمان مرعبة، اهمها الموات الروحي، وفقدان القدرة على الانجاز وعلى المتعة.
ما زلنا نحصد، في العالم العربي كله، اثار هزيمة الـ 67 التي تلقي بظلالها السود على حياتنا، وتمنعنا من تحقيق اي انجاز ذي معنى او التمتع الصافي بالحياة. ففي خلفية الوعي الجمعي والفردي للعرب، يكمن، كالشيطان، الشعور بالعجز واللاجدوى والاستسلام للامر الواقع. يشل هذا الشعور، المجتمعات والافراد – ما عدا استثناءات – عن الفعل الابداعي في الاقتصاد والسياسة والثقافة والعلوم والاداب والفنون والعلاقات الانسانية.
لذلك، تلجأ الجموع المهمشة الى الغيبيات، وتتحصن بالطوائف وتعبر عن رفضها التاريخي للاذلال بوسائل ماضويّة وسيكولوجيا ماسوشية «جلد الذات» تنقلب، لدى بؤر متزايدة، الى سيكولوجيا ساديّة ارهابيّة تكفيرية انتحارية.
في الـ 73 خاض النظام الرسمي العربي آخر حروبه ضد اسرائىل. وحقق انتصاراً جزئىاً. لكن الحرب خِيضَتْ، بالاساس، في افق كسر الحاجز النفسي للاستسلام. ثم تتالت الهزائم: المقاومة الفلسطينية – التي كانت امل الشعوب العربية بعد الـ 67 – لم تبد من الصمود امام الاجتياح الاسرائىلي للبنان العام ،1982 ما يبرر ذلك الامل. وسارت السياسة الفلسطينية، بعد ذلك، في طريق اوصلها الى التفاهم مع الاسرائىليين على حكم ذاتي محدود في العام .1993 هذه الصيغة السياسيّة، وضعت النضال الفلسطيني البطولي والتضحيات الفلسطينية الكبرى، في سياق عملية سياسية مهزومة مسبقاً. فقدت القضية الفلسطينية، الشعلة التاريخية، وتحولت الى نزاع داخلي في السياق الاسرائىلي. وقد قبلت المقاومة الاسلامية في فلسطين «حماس» الاندراج في هذا السياق بمشاركتها في الانتخابات، وتحولها الى حكومة قدمت مثالاً على «ضبط النفس» خلال الحرب اللبنانية – الاسرائىلية، واثبتت انها نسخة اسلامية من «فتح»، في اطار «سلطة» هي تكرار كاريكاتيري للانظمة العربية.
في العراق، راهن نظام الرئيس صدام حسين، حتى اللحظة الاخيرة، على تسوية تمنع الحرب، فلم يستعد لها، وخسرها، بالتالي، في ثلاثة اسابيع. صحيح ان العراق لم يُهزَم. وهو ما يزال يقاتل. لكن المقاومة العراقية – التي أعطتنا الامل – غرقت في الاحتراب الطائفي، وظلت اسيرة الماضي.
خطاب الممانعة السوري – على أهميته – ليس سوى مراوحة منهكة تفتقر الى القدرة على التأثير طالما ان المقاومة لم تشتعل في الجولان.
على هذه الخلفية بالذات، حقق لبنان، بصموده العظيم وانتصاره النسبي في الميدان وفي السياسة، انتصاراً تاريخياً حاسما – اكرر: حاسماً – على مستوى الوعي الجمعي العربي، اولاً لجهة التأكيد العملي لجدوى وفعالية المقاومة، واستعادة الثقة بالذات، وتفجير روح جديدة، نضالية، في العالم العربي كله، وثانياً، لجهة السقوط النهائي لما يسمى «بالعملية السلمية» ونهجها وصفقاتها ومفاوضاتها الماراثونية مع اسرائيل المتغطرسة العدوانية التوسعية، وثالثاً، لجهة الانكشاف الكامل لاسرائيل بوصفها اداة للاستعمار الامريكي. واشنطن، اذن، هي العدوّ، وليست «الوسيط» ورابعاً، لجهة ردم الانقسامات الطائفية، وخصوصاً الانقسام الشيعي – السني، الاخطر على وجود الامة، وخامساً، لجهة انعاش واحياء وتجديد قوى المقاومة في العراق وفلسطين. لن يحدث ذلك بين يوم وليلة. ولكنه سيحدث حتماً. وسادساً، لجهة تجديد البحث والتساؤل حول مستقبل اسرائيل، هل لاسرائيل مستقبل؟ هل نستطيع نحن – والعالم – التعايش مع هذا الكيان العدواني البربري التوسعي المسلح حتى الاسنان، والجاهز، دائما، لارتكاب المجازر؟ سؤال يجيء مما قبل حزيران الـ 67 .. اي مما قبل الهزيمة.
مئات ملايين العرب، سحبوا، بعد 12 تموز ،2006 اعترافهم بدولة اسرائيل. فاذا لم يكن هذا انتصاراً للذات القومية العربيّة فما هو الانتصار؟
انتصار الروح؟ نعم. وهل بعده انتصار؟ استعادة الارادة، والثقة بالنفس، والمبادرة التاريخية.. اما الباقي فتفاصيل سوف تتجسد حتماً في قوى لا نعرفها الآن، ولكن بذورها انغرست في الارض الخصبة لميلاد فجر جديد يكنس عقود الضياع.
ومثلما تنبأ الكاتب الشهيد تيسير سبول، فان اللحظة جاءت لكي نلخّص اربعين عاماً من الهوان والضلال والعبودية، في جملة واحدة، لن تستحق تلك السنوات العجاف غيرها في كتب التاريخ: «مرحلة الظلام».