طوال عقدي الموات الطويلين من 1990 إلى ,2010 تراجع حجم اليسار في الأردن, وانحسر دورأحزابه التقليدية الأساسية, بالانضواء في ما عُرف بـ تنسيقية المعارضة’ مع القوميين وتحت قيادة الإخوان المسلمين. لكن, خلال السنوات الخمس الأخيرة, ولدت تيارات وتجمعات يسارية خارج هذا القيد, وبدأت تنزع إلى استحضار الدور اليساري الغائب في تجارب حزبية ومنبرية وفردية, لم تتبلور بعد. وربما تكون قد وقعت في أخطاء عديدة, لكنها تعبر عن أزمة نمو لا عن أزمة شيخوخة. يتجه اليسار الأردني, اليوم, إلى نهضة جديدة لم يسبق أن توفرت فرصها الموضوعية منذ الخمسينيات. لكنه يواجه ثلاث معضلات ذاتية تعرقل صعوده الممكن والضروري معا. وهي:
أولا: الأثر المخرّب لـ’ الفايروس الليبرالي ‘ ـ على حد تعبير سمير أمين ـ في بعض القسم المخضرم من الأوساط القيادية لليسار الأردني التقليدي. ويتجلى ذلك الأثر المخرّب في عرقلة تبلور الخطاب اليساري, وبالتالي عرقلة توطيد العلاقات مع القوى العمالية والشعبية, والإتجاه نحو الحوار والتحالف مع القوى الليبرالية والإسلامية , في مقابل القطيعة ـ العدائية أحيانا ـ مع أوساط اليسار الجديد.
ثانيا,غياب الكادر الوسيط بين شيوخ اليسار وشبابه. بسبب مرحلة الجدب في عقد التسعينيات. فالعناصر اليسارية الأردنية, إما أنها تعود إلى جيل الثمانينيات وما قبل, أو إلى جيل العشرية الأولى من الألفية الثالثة. وغياب الجيل الوسيط يؤدي إلى اختناقات في سيولة الحركة اليسارية ونقل الخبرات التنظيمية وتوفير القيادات الوسطى الخ. و يمكن تعويض هذه الفجوة, بمضاعفة جهود القيادات من الأجيال السابقة التي تحتاج, بدورها, إلى إعادة تأهيل تمكنها من قراءة المشهد الوطني الاجتماعي المستجد من جهة, وإلى انخراط الجيل اليساري الشاب في مدارس كادر يشكل تأسيسها ضرورة لا غنى عنها من جهة أخرى.
ثالثا: غياب الاتجاه السياسي العملي لدى كل الأطراف اليسارية, نحو بناء قطب موحد لليسار يستلهم ظهوره الممكن كقوة سياسية رئيسية في البلاد. ولا أتحدث هنا عن صيغ وحدة تنظيمية وفكرية الخ, وإنما عن الإنخراط في جبهة موحدة على أساس برنامج مشترك يلحظ الحد الأدنى من التوافقات, ويخوض الصراع السياسي من مركز يساري جبهوي.
ويعتمد بناء مركز كهذا على قدرة الأطراف اليسارية على اكتشاف المشترك السياسي العياني الذي يجمعها في الهنا والآن. ومن جهتي أرى ذلك المشترك في الآتي:
(1) الدفاع عن الدولة المدنية العلمانية وقيم التنوير والإنسانية والثقافة التقدمية, بوصفها الصيغة الوحيدة التي تكفل الحريات السياسية والمدنية والشخصية, وتمثّل الإطار الوحيد الممكن للديمقراطية. ويتطلب هذا الموقف القطيعة الفكرية والسياسية مع القوى الدينية.
(2) الدفاع عن المصالح المعيشية والاجتماعية للفئات الشعبية, وتنظيم المساندة الفعلية لكل أشكال الاحتجاج الاجتماعي, بغض النظر عن أبعادها السياسية,
(3) توحيد الجهود وتركيزها في دعم بناء اتحاد النقابات المستقلة, وتجديد الحركة العمالية, وتحويلها إلى كتلة اجتماعية ـ سياسية, يتمتع فيها اليسار, بكل تلاوينه, بالمواقع القيادية.
العرب اليوم