*
خلال الأسبوعين الماضيين، شهدت صفحات «الأخبار»، حملة على كتاباتي ذكّرتني بشبيهتها في الصحافة الأردنية. ففي المناقشات العربية السائدة، لا مكان لرأي ثالث، أو لمداخلة موضوعية، أو لرؤية فكرية جديدة غير قارّة. وأنا أعاني حقاً «حالة مزمنة»، كما يقول السيد حسام طوقان («الأخبار» 26 آذار 2009) قاصداً أنها حالة مرَضية. وقد يكون قلق الفكر الحر المتحرر مَرَضاً!
وبينما استقر الاعتراف بالوطنيات المحلية في العالم العربي، فإن الوطنية الأردنية لا تزال ممنوعة، بل ومجرّمة بـ «العنصرية». والسبب في رأيي واضح. فالوطنية الأردنية، بحد ذاتها، أي بمجرد وجودها، تطرح مشكلة عويصة على القادة العرب والفلسطينيّين، وعلى كل مستوى، وفي كل المحاور. وهي المشكلة المتعلّقة بوجود القسم الأكبر من اللاجئين الفلسطينيّين في الأردن. وهناك فيما يبدو تواطؤ على الإقرار الضمني بأن مستقبل هؤلاء متجه نحو توطينهم السياسي النهائي شرقيّ النهر. إن فلسطينيي لبنان لا يتمتعون بالجنسية ولا بالحقوق من أي نوع. وهناك تفاهم غامض إزاء حل مشكلتهم خارج الدولة اللبنانية. وفي سوريا، اللاجئون لا يمثّلون مشكلة بالنظر إلى نسبتهم التي لا تتجاوز الـ5 بالمئة من عدد السكان. أما في الأردن، فالوضع مختلف جذرياً. فاللاجئون والنازحون المتمتعون بالجنسية يمثّلون نصف السكان، إضافةً إلى حوالى مليون من غير المتمتعين بالجنسية. وليس من الغريب أن هنالك توافقاً أميركياً ـــ أوروبياً ـــ إسرائيلياً ـــ عربياً (معتدلاً وممانعاً على السواء) ـــ فلسطينياً (فتحاوياً وإسلامياً على السواء)، على إخراج فلسطينيي الأردن من دائرة الشعب الفلسطيني، وتأمين حقوقه السياسية في الأردن. وهو ما يستوجب طمس الوطنية الأردنية وتجريمها.
استجرت مقالتي «الملكية الدستورية الأردنية: ثورة ديموقراطية أم وطن بديل؟»، (المنشورة في «الأخبار» ـــ 11 آذار/ مارس 2009) حشداً من التعليقات الموقّعة بأسماء مستعارة على حاشية الصحيفة، غالبيتها مزايدات فارغة، ليس فيها نقاش من أي نوع، بل اتهامات ليس لها أساس وهجمات على شخصي.
المفارقة أن معظم المعلقين حرّض «الأخبار» صراحةً، على وقف مقالاتي. وهو ما ينسجم تماماً مع قرار الديوان الملكي الأردني بوقف زاويتي اليومية في صحيفة «العرب اليوم» في عمان منذ مطلع أيلول/ سبتمبر 2008، حين فصلتُ أيضاً من عملي، بسبب كتاباتي ونشاطاتي ضد النيوليبراليين، بينما يتهمني السيد كمال خلف الطويل، في مقالة بعنوان «طلاسم » (الأخبار 26 آذار/ مارس 2009) بأنني نيوليبرالي مدافع عن الدوحة الهاشمية. ويا ليت الدوحة الهاشمية تصدّق ذلك، وتكفّ عني!
أنا أقرأ مقالات السيد الطويل في «الأخبار» باستمتاع. وكنت أظنه مصرياً. ولكن تبيّن، مما قال في مقالته، أن عمه كان عضواً في مجلس الأعيان الأردني ـــ مجلس الملك. ويؤسفني أن الكاتب ـــ كما هو واضح ـــ لا يعرفني، ولا يعرف أنه لا عمي ولا أبي عرفا «العينية» ولا القصور الملكية، ولا يعرف أنني سُجنتُ وتعرضت للمحاكمات بتهمة إطالة اللسان على الذات الملكية، وفُصلتُ من الوظيفة 17 مرة، ما زلت أعيش فصول المرة الأخيرة منها. هذا، إضافةً إلى أنني تعرّضت لمحاولة اغتيال، عام 1998، كادت تودي بحياتي، من جانب «جهات مجهولة» في الأمن الأردني. لكن كل ذلك، لا يجعلني، كمثقف ذي ضمير، أنحرف عن الموضوعية، فلا أرى أن عدم اهتمام الرئيس الراحل عبد الناصر وإدارته بتقرير أمني مهما كان مستواه ـــ فما بالك إذا كان صادراً من الملك حسين بعلاقاته الأميركية والإسرائيلية الواسعة ـــ قبيل حرب 67، هو مثال على انعدام المسؤولية. كذلك، فإن حدسي النقدي لن يتوقف أمام مكانة ناصر، بحيث لا أرى أنه اتخذ قراراً مصيرياً خاطئاً تحت تأثير الشعبوية والديموغوجية، تماماً مثلما فعل الملك حسين. إن قيام طبيبين بارتكاب خطأ قاتل مماثل، أمام حالة من النوع نفسه وعلى أساس المعلومات والمعطيات نفسها، لا يعفي أحدهما من المسؤولية إذا كان ذا نوايا حسنة وطيّباً. هذه طريقة بدائية في إصدار الأحكام التاريخية.
على أن ما يقوله الطويل صحيح لجهة أنه لا رابط ضرورياً بين النصر والديموقراطية. لكن ناصراً ليس ستالين ولا هو شي مينه. وعندما ندقّق لن نجد أن هنالك فارقاً اجتماعياً ثقافياً نوعياً بينه وبين الملك حسين. فكلاهما بنى قطاعاً عاماً وأطلق ديناميات التقدم للريفيين ـــ إضافةً إلى مجانية التعليم والطبابة والتأمينات الاجتماعية إلخ، وبنى أجهزة أمنية صلبة واحتكر الحياة السياسية. وكلاهما اصطدم ـــ وفي الوقت نفسه! ـــ مع الشيوعيين، وسجنهم، مع الفارق في القسوة لمصلحة الثاني، وكلاهما تصالح معهم (في الأردن أضف البعثيين) وسعى إلى دمجهم في نظامه. وكلاهما اعتمد، رسميا، «نهجاً ثالثاً» بين الاشتراكية والرأسمالية. اُدرس التجارب المصرية والعراقية والسورية والأردنية في فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وستجد أن الخطوط العامة لهذه التجارب هي نفسها، بغضّ النظر عن نوايا الزعماء وشخصياتهم وتحالفاتهم. وهذا هو ما يستحق التوقف عنده. فالمهم هو حركة المجتمعات التاريخية لا الأفراد، سواء أكانوا رؤساء أم ملوكاً، طيّبين أم أشراراً. أخيراً، فإن ضميري يمنعني من أن أنكر تضحيات الجيش الأردني في حروب 48 و67، ومعركة الكرامة 68، وحرب الاستنزاف 67 ـ 70، لتصفية حساباتي مع نظام أعارضه.
غير أن اللافت في التعليقات المجهّلة الأسماء ـــ وكذلك مقالة طوقان ـــ هو أن القاسم المشترك بينها هو الغضب الشديد من مسألة محددة هي فكرة منح فلسطينيي الأردن الجنسية الفلسطينية، بدلاً من الأردنية، من دون المساس بحقوق الإقامة والحقوق المدنية غير السياسية بالنسبة إلى هؤلاء الذين ينقسمون إلى ثلاثة أقسام هي: 1) بلا جنسية، أو في وضع قانوني غير واضح، 2) أبناء الضفة الغربية الحاصلون على الجنسية الأردنية، وهؤلاء من الناحية القانونية والسياسية مواطنون في «السلطة الفلسطينية» ويتمتعون بحق العودة إلى الضفة بموجب قرار مجلس الأمن 242 واتفاقيات أوسلو، وليسوا كثالث فئة لاجئين ينطبق عليهم قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 195. وهو قرار نتمسك به نصاً وروحاً، ولكنه ليس ملزماً كما هو معروف. وهؤلاء الأخيرون يتمتعون بالجنسية الأردنية أيضاً.
ولا أعرف إذا كان من باب «العنصرية» اقتراح المطالبة بتصحيح الوضع القانوني لفلسطينيي القسم الأول، كيما يتمكّنوا من الحصول على حقوقهم المدنية والإنسانية في الأردن، كمقيمين قانونيين، من دون أن يخسروا حقهم في الجنسية الفلسطينية أو يتمكنوا من العودة إلى القطاع والضفة فعلاً. كما أنه من العجيب أن تغدو المطالبة بالعمل على العودة السياسية لفلسطينيي القسم الثاني إلى الضفة، خيانة، أو يغدو تخيير فلسطينيي القسم الثالث بين الجنسيتين، أو الاحتفاظ بكلتيهما، رجساً من عمل الشيطان. أمّا لماذا تُطرح قضية تنظيم المواطنة الأردنية الآن، فذلك يعود إلى سببين:
-1- الضرورة الوطنية الملحة للانتقال إلى نظام ديموقراطي يتمثّل، كما هو متفق عليه في الفكر السياسي الأردني، في الملكية الدستورية على النمط الغربي. وتتمثّل تلك الضرورة في أن حصيلة التطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد لم تعد تتواءم مع الشكل القائم للملكية نصف الدستورية. وفي رأي أغلبية السياسيين والباحثين الأردنيين، فإن موازين القوى الداخلية والدولية أصبحت تؤذن بذلك الانتقال، إلا أن العقبة التي تحول دونه، هي فوضى الجنسية والتداخل الديموغرافي بين الأردن وفلسطين، مما يجعل التحوّل الديموقراطي في الواقع، تحوّلاً نحو الوطن البديل. وهذه مفارقة كئيبة تجعل الأردني مخيّراً بين استمرار التأخّر وإلغاء الذات الوطنية.
وبالأصل، نشأت الفوضى والتداخل من سياسات النظام التقليدية لاستيعاب الفلسطينيين، إما جرّاء طموحات في توسيع المملكة أو تحت ضغوط أميركية وإسرائيلية، كما هو حادث منذ توقيع اتفاقية وادي عربة لعام 1994. ولكن من الواضح أنهما أصبحا يتمتعان بتأييد تيار واسع بين فلسطينيي الأردن ـــ وخصوصاً التيار الدَحلانيّ ـــ يرفض تنظيم العلاقة، ويعمل على تجنيس المزيد، وينادي بالمحاصصة. وقد أدار هذا التيار ظهره للقضية الفلسطينية، وتحوّل إلى قاعدة اجتماعية للنظام وللبرامج النيوليبرالية والتطبيع. وهذا لا يشمل الجماهير الشعبية الفلسطينية التي لا تزال تتمسك بهويتها الوطنية، كما أثبتت هبّتها الأخيرة في التضامن مع المقاومة في غزة.
-2- السبب الثاني أن النظام الأردني انتهى إلى اعتماد مقاربة خطرة للغاية لتجاوز الضغوط الخارجية والداخلية للدمقرطة وللتوطين السياسي النهائي للنازحين واللاجئين، تقول بتقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم ذات حكومات محلية منتخبة بصلاحيات واسعة شبه سيادية. وسينجم عن ذلك تفكيك الهوية الوطنية الأردنية إلى هويات سياسية فرعية (كانت موجودة أصلاً قبل تأسيس الدولة الحديثة)، ما يجعل إمكان دمج الهوية الرابعة (الفلسطينية ـــ الأردنية) سهلاً، وخصوصاً في إطار إقليم الوسط، حيث توجد أغلبية فلسطينية، وحيث يمكن ربطه جغرافياً بأقاليم الضفة الغربية.
والمشروع كله يهدف، في النهاية، إلى تحويل الضفتين إلى كانتونات ذات سيادة محدودة، بحيث يسقط مشروع الكيان الفلسطيني وينحلّ الكيان الأردني في منطقة مصالح أمنية واقتصادية للعدو الإسرائيلي.
من الواضح أن مسعى الوطنيين الأردنيين إلى مقاومة هذا السيناريو يركّز على المحافظة على الهوية الوطنية الأردنية ووحدة البلاد ومركزية الدولة وتحويلها إلى ديموقراطية، وبالنسبة إلى اليسار، إلى ديموقراطية اجتماعية. وسوف يتعارض هذا البرنامج بالتأكيد مع مصالح الفئات الكمبرادورية الفلسطينية ـــ الأردنية. وسوف تصف مواجهتنا الصريحة لقضايا التغيير الوطني الديموقراطي في بلدنا، ومنها قضية تنظيم المواطنة، بشتى الاتهامات، بما في ذلك «العنصرية»، بل و«الفاشيّة»، وتهمة السعي ـــ كما يقول طوقان ـــ إلى توفير «عمالة رخيصة من فلسطينيين بلا حقوق» للمستثمرين «العشائريين». وهو اتهام يدعو إلى السخرية حقاً. فلا بد أن طوقان يعلم جيدا بأن القسم الرئيسي من الرأسماليين في الأردن، هم فلسطينيو الأصل، بينما القسم الرئيسي من أبناء العشائر إما تحت خط الفقر أو جوعى ـــ بالمعنى الحرفي للكلمة. وهؤلاء هم الذين قاموا بالتمردات الاجتماعية منذ 1989، وطوال العقدين الفائتين من السياسات النيو ليبرالية.
في الأردن توجد جاليات عربية متجنّسة، بما في ذلك سوريون ولبنانيون وعراقيون وحجازيون وفلسطينيون لما قبل الـ48. ويعتبر أبناء العشائر مواطنيهم أولئك جزءاً لا يتجزأ من الشعب الأردني، ويقبلون بتبوئّهم، وبصورة طبيعية، مناصب سيادية. وهو وضع ليس موجوداً في بلد عربي آخر. ولكن الأمر، بالنسبة إلى اللاجئين والنازحين، مختلف جداً. أوّلاً، لأن لهم هوية سياسية أخرى صادرها احتلال استيطاني، وثانياً لأن عديدهم يجعل من عملية دمجهم السياسي في الدولة الأردنية عملية تغيير لهوية البلد والدولة. وقد لا يعني أحداً، سواء لمصلحة أو لرأي، الحفاظ على هوية بلدنا ودولتنا، ولكنه، بالتأكيد، يعنينا.
يبقى عليّ أن أوضح نقطتين: الأولى تتعلق بالصراع مع إسرائيل. ونحن نراه، من وجهة نظر الحركة الوطنية الأردنية، صراعاً غير قابل للتسوية، لأن أية تسوية لا تؤدي إلى تفكيك الكيان الصهيوني سوف تؤدي إلى تفكيك الكيان الأردني وهويته الوطنية. ومن البديهي أن تنظيم وتظهير قضية اللاجئين والنازحين، هو شرط لإدامة الصراع مع إسرائيل، لا العكس. والثانية تتعلق برؤيتنا لخصوصية الكيان الوطني الأردني في إطار تأكيدنا على خصوصية الهلال الخصيب ووحدته. أين التناقض في ذلك؟ أنا وحدوي لا قوميّ. والفارق بين الاثنين كبير. الوحدوي يعترف بالخصوصيات المحلية والسسيوثقافية والجيوبولوتيكية، ويسعى إلى توحيدها في منظومة سياسية واقتصادية ودفاعية. أما القومي، فلا يرى سوى التماثل. وهو ما يتجسد، في النهاية، في صورة استلحاق التكوينات الصغرى بالكبرى قسرياً، ويقمع الاختلاف، ويمنع بالتالي الوحدة. إنني أرى التكوين الأردني، في تاريخيته ودوره، أساسياً في توحيد الهلال الخصيب. والأخير عندي، يتمتع بخصائص المركز السياسي والحضاري للعالم العربي. وأريد لليسار أن يكون محورياً في هذا المركز. أين المشكلة في هذه الأطروحة سوى أنها جديدة؟
* كاتب وصحافي أردني
الوطنيّة بوصفها جريمة!
Posted in Uncategorized.