ناهض حتّر
في نقاشاتي المتكررة مع نواب وسياسيين ونقابيين، لاحظت انهم يسوّقون تراجعهم عنه او تجنبهم المبدئية السياسية، بحجج تقوم على المراوحة بين المكتسبات الشخصية وغالبا المكتسبات الخاصة بالقاعدة الحزبية او الانتخابية، وهذه – كلها – تنتمي، بشكل او بآخر، الى مرجعية الميكافيللية القائلة بان «الغاية تبرر الوسيلة».
المثقف العربي لم يقرأ ميكافيللي، ولم يقرأ موقعه في الفكر السياسي، واكتفى منه بالقول المأثور ذائع الصيت اعلاه.
ولا اريد ان استرسل، هنا، في درس صعب حول ميكافيللي، ولكنني اكتفي بالقول ان الرجل هو مؤسس علم السياسة الحديث، وهو احد المفكرين الكبار الذين أسسوا لنظرية الدولة القومية الحديثة. واعظم تلاميذ ميكافيللي على الاطلاق هو فلاديمير لينين، قائد الثورة الروسية وكذلك المفكر الماركسي الايطالي، انطونيو غرامشي، صاحب كتاب «الامير الحديث» الذي يعد انطلاقا من وتجاوزاً ل¯ كتاب ميكافيللي الشهير: «الامير».
اهمية ميكافيللي انه فصل، في الفكر السياسي، بين الاخلاق الفردية والسياسة. ولكن بالنسبة لاستراتيجية الدولة القومية. وافاد لينين من هذه الفكرة ووظفها في خدمة استراتيجية الثورة الاشتراكية، بينما عكف غرامشي على تنظيرها، من وجهة نظر الطبقة العمالية، فاعتبر ان الحزب الشيوعي هو «الامير الحديث» الذي عليه ان يطور الاطروحات الميكافيللية بما يلائم العصر.
الغاية تبرر الوسيلة بالنسبة للدولة القومية. ولكن، بالطبع، ليس بالنسبة للافراد، سواء أكانوا مواطنين ام سياسيين. ففي الحالة الاخيرة، نكون ازاء عدميّة اخلاقية بشعة ومدمرة. فالاهداف الفردية والفئوية لا تبرر الوسائل اللااخلاقية. ولكن توحيد الامة، وانشاء كيانها، والحفاظ على مصالحها وتأسيس قوتها وحضورها .. كل ذلك له اولوية اخلاقية حاسمة على مصالح الافراد والفئات، وتبرر، اخلاقيا، الجور على هذه المصالح، بما في ذلك حريّة الافراد ومصالحهم وحقوقهم في التملك او التصرف، ويأتي ذلك في سياق هو ان قيام الدولة القومية يشكل في النهاية الضمانة السياسية والقانونية لتمتع الافراد والفئات بالحرية والحقوق.
وقد جعل لينين الاولوية للثورة الاشتراكية. فكل ما يساهم في نجاحها هو اخلاقي، طالما انه يكفل للافراد، في النهاية، العيش في مجتمع العدل والمساواة.
وهكذا، فان مبدأ الغاية تبرر الوسيلة مرفوض، من قبل ميكافيللي وتلاميذه، بالنسبة للافراد والفئات، رفضاً قاطعاً، بل وانها تضع الافراد والفئات في خانة التعارض مع السياسة القومية او الثورية، ميكافيللي وتلاميذه، اذن، يضعون مصالح الدولة القومية او الثورة فوق مصالح الافراد .. بين الابتذال الفكري الشائع للمقولة الميكافيللية يفعل العكس، اذ انه يضع مصالح الافراد فوق مصالح الدولة .. وحركات التغيير.
***
هذه ليست مداخلة نظرية، انها ردّ على الحجج السائدة بين النخبة الاردنية، التي تعتقد ان الانتهازية مبررة في الفكر السياسي، وانها الدرس الاول في السياسة الناجحة. كلا. فالميكافيللية، اللينينية والغرامشية، تتطلب من الفرد التزاما صارما بالانضباط الاخلاقي في الممارسة السياسيّة بصراحة انضباط الجندي في كتيبة الدولة … او كتيبة التغيير.