ناهض حتر
المملكة الأردنية الأولى -التأسيس مع الملك عبد الله الأول.
المملكة الثانية -الدستور مع الملك طلال بن عبد الله ووريثه الشاب.
المملكة الثالثة -الحقبة الرئاسية مع الملك/الزعيم الحسين بن طلال: التحديث، الانجازات، القطاع العام، وايضاً: المديونية، نشوء واستقرار مؤسسة الفساد/الاستبداد. ميراث صعب، ثقيل… وبرنامج “الخصخصة الشاملة” يشطب التحالف الاجتماعي-السياسي الداخلي. الاخطار الاقليمية تتعاظم. المملكة بين نارين: العراق وفلسطين. ما بقي من معاهدة “وادي عربة”، أقل، كثيراً، مما بقي من “أوسلو”… وعدو “المملكة” القديم أرئيل شارون، يتربع على رأس القرار السياسي في اسرائيل يمينية فاقدة الاعصاب، ومدعومة من “الصديق” الأميركي! فمن يعرف، إذاً، أية مآزق يخبئها الغد؟! والمملكة من دون الحسين وثقله الدولي، تحاول الحد الأدنى: السلامة وزيادة ضخ الماء الى العاصمة وبضعة فرص عمل جديدة للعاطلين. “الإصلاحات” النيوليبرالية في الاقتصاد تتطلب تجميد المعارضة ووقف الحياة البرلمانية والسياسية، وإجازة لمدة سنة من الدستور والدستورية. المملكة بلا أفق. السياسة تموت في أكفان القوانين الاستثنائية، ويتصدر المشهد “خبراء” هبطوا على القرار الاقتصادي بالباراشوت، يعدون ويتوعدون الفقراء !! وفجأة …
… …
… …
المملكة الأردنية الرابعة ؟!
أيكون الرابع عشر من شباط 2002، يوم مولدها… أم أنه، حسب، لحظة في مخاض طويل؛ وقد ينتهي الى لا شيء في قصة حمل كاذب؟ كلّا! التساؤل ليس في بساطة هذين الاحتمالين. معركة أم لعبة دمينو؟ ولها سياق شيكسبيري: تكون المملكة أو لا تكون!؟
لئلا نجرؤ ونقول قولة امرؤ القيس: نحاول مُلكاً…
… …
… …
في ذلك اليوم، وجه الملك الأردني الشاب، عبد الله الثاني، ضربة عنيفة، غير مسبوقة، وغير متوقعة، ولا يمكن التراجع عنها، الى قلب مؤسسة الفساد/الاستبداد في المملكة الأردنية الثالثة، فسقطت كبناء من الكرتون الهش والعفن. وثمة تعهد علني بالتنظيف! التنظيف بلا حدود ونهائياً. سوى أنه، بالتعهد ذاك أو بدونه، لم يعد هنالك مفر من التجديد الوطني الجذري، ذلك أن قبضة الملك -الشابة، المندفعة، وبدون حسابات -أصابت النظام السياسي الأردني القديم في مقتل. والسؤال، الآن، هو: التجديد أو الفوضى!؟
وسنوضح كل ذلك تالياً
… …
… …
لسنة خلت، كان الجنرال سميح البطيخي هو الرقم الصعب في معادلة العهد الجديد لمرحلة ما بعد الملك الراحل، الحسين بن طلال. كان يتربع على “عرش” دائرة المخابرات العامة. وهي تتربع، بدورها، على “عرش” النظام، وعلى “العرش” نفسه. كان البطيخي، رجل الأردن القويّ بين 1995 و2001، تكراراً أكثر فداحة للضابط البريطاني الذي حكم الأردن بين 1939 و1956، جون باجوت جلوب.
ولذلك، فحين تمت احالته، بقرار من الملك عبد الله الثاني، إلى التحقيق للاشتباه في ضلوعه في فضيحة فساد إداري ومالي، كتبت تحليلاً أعطيته هذا العنوان: “سقوط جلوب الثاني”. ولقي هذا التحليل الذي نشر في اسبوعية “شيحان” الأردنية، عشية عيد الأضحى المبارك، صدىً واسعاً وترحيباً. فهل وضعتُ أيادي الأردنيين على الجرح… أم أنهم يبحثون عن التلذذ بلحظة انتصار، ولو مجازاً ؟!
جاء البطيخي إلى سدّة “المخابرات”، محمولاً على قاطرة مشروع سياسي -هي نفسها التي حملت عبد الكريم الكباريتي إلى سدّة الدوار الرابع (مقر رئاسة الوزراء) -وكان ذلك يحدث، لأول مرة، في هذه “الدائرة” ذات التقاليد المهنية والتي ظلت، دائماً، أداة للقصر، فإذا هي تتحول، مع البطيخي، إلى غول سياسي لعب بالقصر وأهله، وأذاق الأردن وشعبه، الويلات.
والمشروع السياسي المعني -وهو أميركي المنشأ والمال -أراد أن يصطاد عصفورين بحجر واحد. العصفوران هما (1) تحويل الأردن إلى قاعدة أمنية -سياسية لإسقاط النظام العراقي؛ (2) وإعادة هيكلة البلد سياسياً بحيث يمكن ضمّه إلى كونفدرالية مع السلطة الوطنية الفلسطينية، وربما اسرائيل. وكان ذلك في عز “السلام” والتطبيع والآمال حول “الشرق الأوسط الجديد”، في مطالع العام 1996.
وأما الحجر، فـ “الثورة البيضاء” ضد القوى “التقليدية” في الإدارات الحكومية والأمنية، العشائر، أحزاب المعارضة، الصحافة… وبالقوة -بما في ذلك استخدام القوات المسلحة -وبالاعتقالات والمطاردات والعسف وشراء الضمائر.
اخترق العراقيون، الترتيبات الأمنية الأميركية التي أدارها البطيخي؛ وأسقط الأردنيون، الترتيبات السياسية التي أدارها الكباريتي. ولم تكن المسافة سوى بضعة شهر بين انتفاضة “الخبز والحرية” في آب 1996 التي اجتاحت الريف الأردني، وقيام القوات العراقية بتصفية وكر “السي آي ايه” في “صلاح الدين” شماليّ العراق، حين “استرد” الملك حسين، الايقاع، ووجد سبباً عارضاً ليطرد الكباريتي… إلّا أن البطيخي بقي. استبقاه الملك حسين الذي كان يحيط “الدائرة” بجدار من الهيبة، يفصلها عن وحول السياسة اليومية ويضعها في صف المقدسات.
وتلاحقت الأحداث العاصفة. وتمكن البطيخي من البقاء وقتاً اضافياً طويلاً، أشرف، خلاله، على صدّ أكثر من (700) عملية ارهابية، أعلن أنه، أي البطيخي، فككها في أربع سنوات، أي بواقع عملية ارهابية واحدة كل يومين تقريباً. لقد كان “الإرهاب” نشطاً جداً في الأردن خلال سنوات “حكمه”، لكن البطيخي لم يقدم أي أدلة على أن “عملياته…” تلك لم تكن أكثر من تسجيل احصائي -ربما -لحالات الاعتقال السياسي، ودهم منازل الصحافيين ومكاتبهم، بحثاً عن أدلة تورط أصحابها في قضية “إطالة اللسان” أو الإساءة إلى الوحدة الوطنية… أو…
وفي خريف 2000، كان البطيخي قد حصل على وقت اضافي أكثر مما ينبغي، لجنرال جاء وقت خريفه… ويرخي ظلاله على ربيع ممتنع.
وكانت الضربة الملكية الأولى للبطيخي تعرب عن قوة الملك الشاب، ولكنها لا تصطدم مع قوة “الجنرال” الذي أزيح عن منصبه، وظلت رمزيته الكثيفة و”شبكته.” غير أن انكشاف فضيحة “جلوبل جيت” المالية، أوصلت اللعبة إلى منتهاها. الضربة الملكية الثانية، في 14/02/2002، كانت قاصمة.
ينفي البطيخي، في تصريحات صحافية، ضلوعه مع مجد الشمايلة وآخرين في استخدام وثائق “الدائرة” والثقة العامة بها، في الحصول على تسهيلات مصرفية، والتلاعب بالمال العام… الخ من التهم التي يحقق مدعي عام محكمة أمن الدولة فيها. ولكن، من يثق بالبطيخي؟
الآن لدينا قضية بالفعل. ليست قضية “ارهاب” مؤلفة أو قضية “إطالة لسان” مفبركة، بل قضية فساد تطال المدير العام السابق للمخابرات، ومساعده، وثلاثة ضباط عاملين. وعند هذا الحد تجاوزت الضربة، الجنرال و “شبكته”، ووصلت إلى أسّ النظام السياسي الذي لم يبق منه شيء، لا الدور الاقتصادي -الاجتماعي الداخلي، ولا الدور الاقليمي، ولا قداسة “الأجهزة”، بينما “قداسة” الحكم قد انتهت منذ انتفاضة نيسان العام 1989، والمعارضة… بين بين!
الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، اليوم، وحيداً سوى من قوتين: قوة التأييد الشعبي في المعركة ضد مؤسسة الفساد/الاستبداد، وقوة القرار الذي لم يعد مكبلاً بقيود مراكز القوى.
أيكفي هذا من أجل ولادة المملكة الأردنية الرابعة؟ ربما، إذا تحققت ثلاثة شروط:
الأول: أن تتحول قوة التأييد الشعبي إلى حركة وطنية ديمقراطية من طراز جديد، تقطع مع الماضي، وتطرح مبادرات نوعية، وتقترح نخبة سياسية وإدارية وإعلامية وثقافية جديدة؛
والثاني: أن تصب قوة القرار المطلق المتاحة للملك الشاب، الآن، في التحول النهائي نحو ملكية دستورية ديمقراطية على الطراز الغربي؛
والثالث: تحجيم القوى النيوليبرالية، وإعادة الاعتبار لكل القوى الاجتماعية-السياسية، التقليدية والحديثة، في نقاش وطني مفتوح على المصالحة والتفاهم، أي انه لا يستثني أحداً، أو وجهة نظر، أو مصالح مشروعة، ويهدف إلى اعادة التأسيس.