*
صحونا… فإذا بالقوى العربية ـــــ المتعارضة ـــــ في وضع « التنضيد السياسي»، تصطفّ لكي تشكّل جملة واحدة: نعم لأوباما! وزير الخارجية الأردني، ناصر جودة، يتحدث باسم «الاعتدال العربي»: ممنوع على أي كان تعطيل دينامية فرصة أوباما. ظاهر القول ربما يعني حكومة بنيامين نتنياهو، لكنه يشمل المعارضات الممكنة على الجانب الآخر من الصراع أيضاً. ذلك لأن فرصة أوباما تتطلب، خلافاً للمبادرة العربية العتيدة، الشروع في التطبيع قبل السلام. وهو ما أقره فعلاً اجتماع وزراء الخارجية العرب الأسبوع الماضي في القاهرة. وهو الاجتماع الذي غاب عنه، كما هو متوقع، وزير الخارجية السوري وليد المعلم، من دون أن تغيب سوريا في تمثيل أدنى، يعني: نحن لا نعترض! ولكن لدينا لعبتنا الخاصة مع أوباما.
القيادة السورية ـــــ التي ليس لديها أوهام بشأن إمكانية التوصل إلى حل بشأن الجولان مع حكومة أقصى اليمين الإسرائيلي ـــــ لن تمانع بعد، فيما يتصل بجهود السلام العربية على المسار الفلسطيني. ولكنها لن تشارك فيها، مركّزة جهدها على المسألة الأكثر جدية: تطبيع العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة. وهي عملية ميدانها ليس في فلسطين ـــــ أو حتى في لبنان ـــــ بل في العراق. هنا يمكن تحقيق نجاحات فعلية وسريعة ومثمرة: واشنطن تريد المساعدة من أجل إنجاز انسحاب آمن من العراق لا يترك خلفه فوضى ولا نظاماً معادياً أو نظاماً مخترقاً من جانب الإيرانيين. والمطالب السورية مقابل تلك المساعدة واقعية، ولا تتعلّق بموافقة طرف ثالث. تريد دمشق عودة السفير الأميركي ورفع العقوبات وخطاً ساخناً بين قصر المهاجرين والبيت الأبيض.
المفارقة ــــــ الحادثة هي أن ما تخسره سوريا من اهتزاز نظام الملالي تحت ضغط الانتفاضة الشعبية الإيرانية، سوف تعوّضه أضعافاً من خلال تعزيز دورها ونفوذها في العراق على حساب طهران، التي ستكون في الفترة المقبلة الحرجة عراقياً مشغولة بجراحها الداخلية عن استكمال برنامجها التوسعي في العراق.
العراقيون الفرحون بالضربة الشعبية التي دوّخت ملالي طهران، سوف يرحبون بسوريا لملء الفراغ أو بعضه. ذلك أن سوريا، العربية والعلمانية، لا تصطدم بحساسية العراقيين إزاء هوية العراق العربية، ولا تتعارض مع ميولهم المتنامية ضد الأصولية.
على المستوى الداخلي، يتبلور ويتسارع في سوريا خط الليبرالية الرأسمالية الكمبرادورية في المجال الاقتصادي. وقد أصبح واضحاً أن لبرلة الاقتصاد السوري لم تعد تعبيراً عن نهج داخل النظام، وإنما عن قرار سياسي شامل.
في المقابل، تسير سوريا وفق قانون «الانفتاح» العربي نفسه: التفاهم مع السلفيين. وهذه عملية سياسية موضوعية. فاللبرلة الكومبرادورية للاقتصاد لا تتمّ إلا على حساب المجتمع. ولتلافي المطالبة بالليبرالية السياسية والاحتجاجات الاجتماعية في آن واحد، يحتاج النظام إلى لحمة أيديولوجية هي تلك التي توفّرها السلفية الدينية المضبوطة أمنياً، ولكن المسموح لها بالتدخّل في مجالات اختصاصها التقليدية المتعلقة بالعائلة والثقافة. مع الإمكانية المفتوحة على احتمالات سياسية واقتصادية رحبة في العراق، سيكون على القيادة السورية أن تشجع حليفيها الرئيسيين في مواجهة إسرائيل والاعتدال العربي (حزب الله في لبنان وحماس في فلسطين) على إجراء تسويات داخلية والتوقف عن اعتراض المجرى العام للسياسات العربية. أيعني ذلك أن دمشق تمارس ضغوطاً على حزب الله وحماس لدفعهما نحو الاعتدال؟ كلا.
ــ فحزب الله أعلن مبكراً، وعلى لسان أمينه العام حسن نصر الله، خطته للتسوية الداخلية القائمة على التعايش السلمي بين المقاومة والبزنس، متمنياً العودة إلى صيغة التفاهم مع الرئيس الراحل رفيق الحريري. وهي صيغة لم ينقلب عليها حزب الله في السنوات الأربع الماضية من الصراع الأهلي الذي تخلّلته حرب إسرائيلية بحسابات لبنانية، بل إن ذلك الصراع ـــــ والحرب ـــــ حدثا أصلاً لأن تيار المستقبل لم يعد يتبنّى حريريّة التسعينيات. الآن، وحالما تكوّنت المعطيات الدولية والإقليمية والمحلية الملائمة للتسوية الداخلية، سيعود لبنان إلى «ستاتيكو» التسعينيات مع تفاهم أساسي بصدد سلاح حزب الله: بقاؤه وخضوعه للقرار السياسي للنظام اللبناني. وسوف لن تكف قوى هامشية من مسيحيي ما كان 14 آذار عن الاعتراض، لكن من دون القدرة على عرقلة التفاهم الشيعي ـــــ السني ـــــ الدرزي. وسيكون التيار العوني أمام خيارين: التخلي عن التغيير والإصلاح مقابل الاندماج في مؤسسة الحكم ــــ وفق شروطها ـــــ أو قيادة حركة معارضة جذرية ضد النظام، مبتعداً بالتالي عن تفاهمه الخاص مع حزب الله الذي انخرط في الصراع الداخلي أساساً من أجل الحفاظ على «ستاتيكو» النظام لا من أجل تغييره.
لقد انتظم السنّة والشيعة والدروز في طوائفهم/ كانتوناتهم، انتظاماً كاملاً شاملاً متماثلاً كالموت، وظلت بقية من حيوية لبنان في الدائرة المسيحية المطلوب إغلاقها هي الأخرى في طائفة / كانتون وراء قيادة واحدة أملها الجنرال ميشال عون وفشل في تحقيقها. وهو الآن أمام فرصة تحقيق زعامته، لا ضد إمبراطورية الحريري، ولكن من خلالها وفي ظلالها، ومستعيناً بدعم حزب الله، لتعويض خسائره. غير أن تلك الفرصة ليست مفتوحة. ذلك أن حزب الله أصبح مضطراً إلى تسريع ديناميات التسوية الداخلية تحت وطأة الحدث الإيراني.
ـــــ «حماس»، هي الأخرى، مشغولة بالتوصل إلى «حوار من دون شروط» يقود إلى تفاهم واقعي مع إدارة أوباما، لا يأمل الجلوس محل فتح على مائدة مفاوضات ـــــ هي، على كل حال، وهمية في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية ـــــ ولكنه يطمح إلى رفع الحصار عن غزة، وتلافي العزلة والتهميش، ونيل الاعتراف من واشنطن مقابل التسوية الداخلية اللازمة لإنجاح خطة أوباما: إنجاحها كـ«عملية سياسية» لا كإنجاز سياسي. لكن الطرف المتعنّت هنا هو «فتح» التي ترفض الشراكة في السلطة والقرار، حتى على قاعدة البرنامج السياسي نفسه. ولا أظنها مفارقة أن السلطة الفلسطينية تصعّد ضد «حماس» في الضفة، حصاراً واعتقالات واشتباكات، كلما اتجهت القيادة الحمساوية نحو الاقتراب السياسي من العملية السلمية. لكن الولايات المتحدة والاعتدال العربي لن يسمحا لرام الله بأن تعرقل تفاهماً حمساوياً ـــــ أميركياً قيد التشكّل. وليس لدينا شك في أنه سيتشكل في معادلة تعكس المطالب الميدانية: تطبيع الموقف الحمساوي مع العملية السلمية التي يستعد أوباما لإطلاقها، في مقابل تطبيع الوضع في غزة، والدخول من ثم، في مفاوضات فلسطينية ـــــ فلسطينية جدية لتقاسم السلطة وكرسي التفاوض مع إسرائيل.
ــ ولئن كان كل ذلك يحدث على إيقاع الانسحاب الأميركي من العراق، فسيكون علينا أن نسأل عن مآل قوة رئيسية من قوى الرفض العربي خلال العشرية الأولى من هذا القرن، أعني المقاومة العراقية. ولكي يكون كلامنا التالي من دون التباسات من أي نوع، فعلينا أن نعترف أولاً بأن القوة النارية والتضحيات الجسيمة للمقاومة العراقية بين 2003 و2006 هي التي أفشلت مشروع المحافظين الجدد في العراق والمنطقة، وهي التي سمحت بصمود سوريا وحزب الله و«حماس» أمام مساعي وحروب الإلغاء.
غير أن القوة النارية غير المسبوقة للمقاومة العراقية لم تثمر سياسياً في توحيد الشعب العراقي في دولة من طراز جديد تستلم البلد من الاحتلال المطرود، وتنتقل به إلى عملية وطنية، تحررية وتنموية وديموقراطية، يحتاج إليها العراق والمشرق معاً لفتح طريق النهضة.
لقد ظلت المقاومة العراقية أسيرة التكوين الطائفي ـــــ مثلها مثل المقاومة اللبنانية ـــــ ولم تستطع توحيد المجتمع العراقي وراء برنامج وطني للمستقبل، بل بقيت تدور، سياسياً، في رحاب الماضي ومحاولة إحيائه. الآن، وخصوصاً بعد انسحاب المحتلين من المدن والقصبات العراقية إلى قواعد خارجها، سيكون كل عمل مسلح يستهدف غير تلك القواعد، غير مشروع من وجهة نظر وطنية، بل موضع شك في كونه مشبوهاً بالتعاون مع جنرالات الاحتلال الساعين، تأميناً لمصالحهم، إلى المماطلة ما أمكن في تنفيذ الانسحابات النهائية.
واقعياً، جرى تحييد قوة النيران سياسياً في العراق اليوم. وهذا يعني أن المقاومة العراقية لم تعد لاعباً أساسياً في المشهد العراقي. المفارقة هنا أنّ أقصى ما يطمح إليه النظام العراقي الناشئ بعد الاحتلال، هو بناء نسخة شيعية من نظام الرئيس الراحل صدام حسين، لا على المستوى الداخلي فقط، وإنما أيضاً على المستوى الإقليمي: ندية متصاعدة ـــــ ولاحقاً عدائية ـــــ إزاء طهران، أصبحت أكثر واقعية الآن في ظل الانشقاق الداخلي الإيراني، وعداء متجدد ـــــ مشروع ـــــ مع الكويت المصرة على احتلاب العراق وإدامة وضعه تحت الفصل السابع، وطموح إلى دور خليجي، هذه المرة من خلال مجلس التعاون.
لكن تلك النسخة الصدّامية التي يريد نوري المالكي أن يكونها، باهتة، عدا عن كونها فائتة تاريخياً. فما يريده العراق، موضوعياً، هو عملية سياسية وطنية علمانية تقودها نخبة متلاحمة على برنامج تنموي ديموقراطي يوحّد البلد، وينقله من عهد البحث عن الذات في المواجهات الإقليمية، إلى تحقيق الذات في المنافسة الدولية، أقله وفق الأنموذج الماليزي مثلاً.
بالمحصّلة، نستطيع القول إن قوى الممانعة والمقاومة العربية نجحت بالفعل في البقاء في مواجهة حقبة جورج بوش وحملاتها العسكرية والسياسية، ولكنها فشلت في إحداث تراكم سياسي إبان المواجهات باهظة الكلفة، يقود إلى التغيير.
لقد كان سقف هذه القوى الماضوية هو العودة إلى «ستاتيكو» دمرته إدارة بوش. وها هي تعدّ الخطى نحو تحقيق برنامجها ذاك، لكن السقف نفسه أصبح أوطأ. فإذا كان كل ما لدى المقاومات هو السلاح، فالسلاح باق، ولكن استخدامه ممنوع. وإذا كانت الممانعة هي لتلافي التهميش والاحتفاظ بالدور الإقليمي، فهذا قد تحقق ولكن في ظل هيمنة الخصم وليس ضدها.
سوف نتعلم الآن إذن، ومرة أخرى، الدرس الذي ننساه دائماً تحت وطأة الأحداث: أن الميدان الأول للصراع هو الميدان الأيديولوجي، حيث التصالح مع الأصولية والطوائفية والديموغوجية القوموية والبزنس والاستبداد… يقود إلى خسارة المعركة مع العدو، مهما كانت شجاعة السلاح المقاوِم أو نجاعة السياسات الممانعة. فالحرب الكبرى هي حرب الأفكار، تلك التي ما زلنا نؤجل خوضها.
* كاتب وصحافي أردني
الممانعة والمقاومة: نجاحـــا ت تكتيكية وفشل استراتيجي
Posted in Uncategorized.