كانت عمان موضع فخر في نظافتها وخدماتها البلدية ـ حتى في الأحياء الشعبية ـ وفي أناقتها ومعمارها المميز من الحجر الأبيض ، وتحررها من العشوائيات وزحمة السير والتلوث الخانق وقدرة مواطنيها على التنقل ـ بالسرفيس اللطيف الرخيص المنظم في مواقع ملائمة ـ بين أحيائها. لكن عمان ، للأسف، تراجعت في كل المجالات البلدية الحضارية ، ولم تعد كما ألفناها. وقد تكون عاصمتنا ما تزال أفضل من سواها من عواصم المنطقة، لكنها لم تعد بالمستوى الذي تكرّس في العقود الثلاثة الأخيرة، وخصوصا في خدمات النظافة ونوعية الطرقات وتراجع المناطق الخضراء والازدحام المروري الخ وذلك بالإضافة إلى التشوّه الذي لحق بها جراء بناء ناطحات في مدينة جبلية . وهذا ، بحد ذاته ، تناقض معماري، يبدو انه سيحكم ، نهائيا، هيكل المدينة على الضد من أبنائها. فها هي الحكومة ، على رغم كل الاحتجاجات ، تعقد صفقة جديدة لبيع أرض مستملكة للنفع العام في منطقة خلدا ، بهدف إقامة مربع استثماري جديد من الناطحات.
ويجد المرء نفسه في حيرة شديدة إزاء إصرار أمانة عمان على إقامة مشروع ‘ مجمع الدوائر ‘ الذي سيرتب على الخزينة ، من دون ضرورة ، حوالي ملياري دولار ، بينما تحتاج المدينة إلى الأموال من أجل ضرورات النظافة والخدمات البلدية وتنظيم السير والتشجير والحدائق العامة والنقل العام المنظم ـ وهو البديل الوحيد الممكن في ظل ارتفاع أسعار النفط.
للمدينة هياكل حضرية واجتماعية وثقافية وإنسانية وعاطفية ، من شأنها أن تطبع سكانها بطابعها ، وتوحدهم وجدانيا من خلال الذاكرة المعمارية والرمزية المشتركة . وهو ما يجعل المدينة هي نفسها ، أي هو ما يمنحها ، في الأخير ، هويتها المتشكلة من نسيج اجتماعي ـ تاريخي ، لا من قرارات الاستثمار العقاري واصطناع المربعات المفروضة على الناس والحياة ، بلا روح.
مبنى القيادة العامة في العبدلي كان يشحن الرمزية الوطنية ، والشعور بالثبات والاطمئنان، ومواقف الخطوط الخارجية كانت جزءا من ذاكرة جماعية للأردنيين، والمنطقة كلها ، بمؤسساتها ومحلاتها ومتاجرها وأكشاكها ومكاتب السفريات فيها وصخبها المتعدد الألوان وناسها المتنوعين ، كانت جزءا من روح عمان. وسوف يحل محل كل ذلك ، للأسف، مربع استثماري غريب منبت الصلة بمجتمع المدينة القديمة ومجتمعها .
ولم نكد نستوعب هذه الصدمة ، فإذا بأمين عمان ، يواجهنا بصدمة جديدة في مشروع المربع الاستثماري الجديد المسمى ‘ وادي عمان ‘ في قلب المنطقة القديمة من المدرج الروماني إلى المحطة.
في العهد الروماني ، كان جبل القلعة متصلا بالمدرج الروماني عبر أدراج وشارع معمد . ولسوف نرحب بمشروع آثاري حضاري غير استثماري يهدف إلى إعادة الاتصال ذاك ، مع دمجه بالمحيط الاجتماعي ، وإعادة مواقف السيارات إلى موقعها السابق ، وتنظيف الساحة الهاشمية من الكافتيريات العشوائية ، ودمج عمان الرومانية بعمان الإسلامية وعمان الشعبية في مشهد واحد حي يظل ملكا للناس وللمجتمع . لكن تحويل المنطقة إلى مربع استثماري غريب عن روحها ، سوف يكون تخريبا لجزء آخر من هوية المدينة.