استطاعت الحكومة الأردنية، بدون عناء يذكر، أن تستصدر من مجلس النواب الجديد، قراراً بالموافقة على اعتماد سياسة رسمية جديدة بشأن القدس، لم تعد المملكة بموجبها، تعترف بالقدس عاصمة للدول الفلسطينية، كما كان الحال منذ 1974، بل بعاصمة فلسطينية »في القدس«. ويمثل ذلك، في أقل تقدير، انقلابا جذريا على واحد من الثوابت السياسية الأردنية، على المستويين، الشعبي والرسمي المعلن. فهل يعني هذا أننا بإزاء برلمان مطواع إلى هذا الحد، بحيث يوافق، بسهولة، على ما كان يُعتبر، حتى وقت قريب، من المحرمات، فيتم اللف والدوران حوله من دون إعلانه؟لقد أظهرت المناقشات النيابية، قبيل التصويت على الثقة بحكومة الدكتور عبد السلام المجالي، أن البرلمان الأردني الجديد، ليس دمية حكومية، وان هنالك معارضة جدية، وأن معظم النواب الذين منحوا الثقة، قدموا شروطا. وبالنتيجة، حصلت حكومة المجالي على ثقة 15 نائبا من أصل 80 نائبا هم أعضاء البرلمان بمعارضة 15 نائبا وإقناع 12 نائبا إضافة الى الرئيس وغياب نائب واحد. وباختصار، كانت جلسات الثقة، جلسات نيابية حقيقية وجادة، وتضمنت كل أشكال النقد والخلاف المعهودة برلمانيا، ولكنها دارت، بالأساس، حول الشؤون الداخلية!هذه المفارقة التي تابعها الجمهور الأردني، ودفعته الى معاودة الاهتمام بالشأن البرلماني، سنلاحظها، في ما أعتقد، تتكرر تباعا. وذلك، لان مقاطعة الاخوان المسلمين ومعظم الأحزاب والشخصيات الوطنية للانتخابات النيابية الأخيرة في الأردن، قد أخلت الساحة، باستثناءات معدودة، للفئات التالية: (1) نواب يمثلون العشائر والمناطق الريفية الشرق أردنية، ويشكلون الأكثرية. (2) نواب يمثلون الشارع الفلسطيني »المتأردن«، ويميلون، بعامة، الى السلطة الفلسطينية ويؤيدون »العملية السلمية«، ويمثلون أقلية بسبب استجابة الشارع الفلسطيني لنداءات المقاطعة، وسط عدم اهتمام هذا الشارع، أساسا، بالعملية السياسية المحلية. (3) نواب يمثلون القوى الكمبرادورية من خط رئيس الحكومة السابق، عبد الكريم الكباريتي. ويؤيد هؤلاء، سياسيا، خط عرفات حزب العمل. (4) نواب يمثلون البيروقراط المزيد للتنسيق مع الليكود، من خط الرئيس عبد السلام المجالي وشقيقه عبد الهادي (علما بأن هذا الخط حظي بهزيمة انتخابية مؤثرة).وإذا كانت الفئتان الأخيرتان من النواب ومعظمهم وزراء سابقون تؤيدان السياسات الخارجية للنظام الأردني، مع اختلافات في التفاصيل، فإن أغلبية المجلس النيابي من نواب العشائر والمناطق والمخيمات، غير مسيسة، ومستعدة ليس وحسب للموافقة على السياسات الخارجية الرسمية بدون تحفظ، لكن للتخلي عن حقها في مناقشة تلك السياسات أصلا، لقاء تشددها في تمثيل المصالح المباشرة للفئات الاجتماعية والمناطق التي أرسلتها إلى البرلمان. وربما يكون النائب منصور سيف الدين مراد الذي كان في البرلمان الحادي عشر، معارضا قوميا ثابتا للسياسات الرسمية، قد لخص، بسذاجة، المضمون العام للبرلمان الأردني الثالث عشر، حينما منح ثقته لحكومة الدكتور المجالي، على رغم اعتراضه المضمر على سياساتها، لأنها »وافقت على نقل مكب النفايات في مدينة الزرقاء« من مكانه الحالي إلى مكان آخر. وهو مطلب مزمن لجماهير الزرقاء!لقد عاب النائب احمد عويدي العبادي (عشائري) على الحكم تحيّزه للكمبرادور والأردنيين من أصل فلسطيني، بينما عاب النائب حمادة فراعنة (فلسطيني) على الحكم، عدم انصافه الفلسطينيين في الأردن من حيث حصتهم في الوظائف العليا والأمنية والعسكرية. وكلاهما منح الثقة للحكومة، في سياق الاحترام لرئيسها وبرنامجها ووعودها. واذا كان العبادي وفراعنة مسيسين، ويناقشان من مواقع سياسية، فإن الجو العام لنواب العشائر الذين يمثلون »معارضة موضوعية«، اذا جاز التعبير، سواء منحوا الثقة أو حجبوها، فهو غير مسيّس، وأشخاصه درجوا على القناعة بأن السياسة هي شأن خاص بالقصر، وعلى تأييد ما يراه القصر في الشأن العام والخارجي، إلا أنهم لا يتنازلون، وبصورة حازمة في معظم الأحيان، عن حقهم في المطالبة باحتياجات مناطقهم وجماعاتهم، والاعتراض العنيف أحيانا، كما رأينا في أحداث آب 1996 لدى رفع الدعم عن الخبز والأعلاف على تقصير الحكومة في تلبية هذه الاحتياجات، او إقدامها على التمييز ضدهم أو ضد مناطقهم وجماعاتهم.لعلّ برلمان 97، يمثل محاولة (وهمية في ما نعتقد) للعودة الى العقد الاجتماعي للسبعينيات والثمانينيات في الأردن، والذي بمقتضاه تنازلت الجماهير الريفية عن كل حق سياسي، لقاء قيام الحكومة بتوفير الخدمات والوظائف والمساعدات، وتوزيعها بصورة »عادلة« على المناطق والفئات والعشائر. وبسبب نضوب المساعدات العربية وانفجار أزمتي المديونية والفساد الإداري والمالي، وبالتالي الخضوع لبرنامج صندوق النقد الدولي، نشبت الانتفاضة الأردنية في ربيع 1989، والتي انتهت بولادة »الديموقراطية الأردنية« وكتابة ميثاق وطني جديد لمعالجة عقابيل الانتقال من دولة الرعاية الاجتماعية الى دولة القطاع الخاص. والأمر، ان الحكم الأردني وقع، عقب توقيع المعاهدة الأردنية الاسرائيلية عام 94، بين المطرقة والسندان. »فالديموقراطية«، بوصفها إطارا للتكيف الاجتماعي السياسي الداخلي، ضرورية للغاية، ولكنها معادية لإسرائيل، بينما التعاون الوثيق مع الدولة العبرية، كما يرى الحكم، يمثل شرطا أساسيا للحصول على مساعدات واستثمارات أجنبية لازمة، ليس لاستمرار تمويل أجهزة الحكم وأدواته فحسب، ولكن لتجاوز الانهيار الاقتصادي أيضا. ولعلّ حكومة الدكتور المجالي، تسعى، بالاستناد الى العشائر نيابيا، الى إعادة بناء العقد الاجتماعي القديم سياسيا، مع السعي الحثيث للحصول على »ثمار« اقتصادية لعملية السلام، تؤمن إحياءه اجتماعيا. وهو شرط لاستمراره سياسيا.واذا كان لا يوجد أي دليل على إمكان تمويل عقد كهذا، بينما تجد الحكومة الأردنية نفسها أمام رحى متعارضة بين مطالب الكمبرادور وصندوق النقد الدولي للمزيد من الخصخصة وتخفيض الانفاق العام والوظائف، وبين المطالب المعاكسة لأبناء الريف من موظفي القطاع العام والجيش والمزارعين، وبين المطالب الواضحة بالمساواة من قبل فلسطينيين ملحقين غدا الحصول على تأييدهم السياسي ضروريا من أجل تغطية التدخل الأردني في مفاوضات الحل النهائي للقضية الفلسطينية.إن حجم الأزمة الاقتصادية الأردنية، وصعوبة »تمويلها« أميركيا وعربيا، وهامشية الدور الأردني اقليميا، وكون الاستثمار في الأردن هو، بالأساس، قرار فلسطيني مرتبط بمآل مجمل العملية السلمية، كل ذلك وغيره يجعلان محاولة إحياء عقد اجتماعي تتداعى كمحاولة يائسة. وعليه، فإننا سنشهد معارضة عشائرية في المجلس النيابي الأردني الثالث عشر، ربما تتصاعد، في حجمها ولهجتها ووعيها، كلما اتضح مدى العجز الحكومي عن تسديد فواتير مساومة لا يمكن إنجازها. ولا يعرف إذا ما كانت هذه المعارضة، ستأخذ طابعا سياسيا واعيا على نحو ما حصل مع النائب نزيه العمارين، الذي انتقل في المجلس السابق وفي ظل المواجهة الاجتماعية بين جماهير الريف وحكومة عبد الكريم الكباريتي في صيف 1996 من »المعارضة الموضوعية« الى المعارضة السياسية الواعية. لكن الأزمة السياسية الأردنية لم تنته فصولا، والمجلس النيابي الحالي بالذات، سيكون أحد المنابر الأساسية لتصاعد هذه الأزمة. ولعل القوى التي قاطعت الانتخابات النيابية، قد أضاعت فرصة مهمة لتطوير الحياة السياسية الأردنية. فقد كان بإمكان هذه القوى، وعلى رغم كل أشكال التدخل الحكومي في العملية الانتخابية، إنجاح 23 25 نائبا معارضا، وإذا ما أضفنا الى هؤلاء نواب المعارضة و»المعارضة الموضوعية« من الذين شاركوا وفازوا فعلا، فلعله كان مؤكدا إطاحة حكومة المجالي ووقف مسلسل الاعتداء على الحريات العامة الذي ما زالت حلقاته تتتابع.(عمّان)