ناهض حتّر
العراق العربي بلد معروف بحدوده الاجتماعية-السياسية منذ القدم. وليس مصطنعاً بإرادة الإنكليز كما يقول المستشرقون والقومويون الذين لا يرون ولا يعترفون بـالخصائص الوطنية للبلدان العربية. والمصطنع، في الدولة العراقية الحديثة، هو إلحاق كردستان الجنوبية بالكيان العراقي. وهذه مشكلة تتعدى العراق إلى إيران وتركيا. فهاتان الدولتان تضمان، أيضاً، مناطق كردية وأكراداً. والحلّ الأمثل لهذه المشكلة، هو إقامة دولة قومية شاملة لإقليم كردستان كلّه. أما إقامة كيان كردي انفصالي على حساب الدولة العراقية، وحدها، فهو افتئات على مصالح الدولة العراقية، ولا يحل المشكلة الكردية، بل ينشئ كياناً رجعياً إقطاعياً يتحكم فيه الإقطاعيون والعملاء، بحيث يصبح مقراً وممراً للاستعمار ضد مصالح العرب والأكراد معاً.
وبخلاف ما هو عليه الحال في إيران وتركيا، فهناك تقاليد راسخة للأخوة العربية-الكردية. وهناك قسم كبير من الأكراد، مستعربون تماماً مثلما هناك أكراد من أصول عربيّة. وقيام كيان انفصالي كردي في العراق، لا يحقق مصالح الأكراد العراقيين، وإنما مصالح أوساط من النخبة الكردية من الإقطاعيين ورجال الأعمال وأصحاب المليشيات. وحين يطالب هؤلاء بكيان كردي يضم كركوك والموصل-وهما ليستا كرديتين-ويبررون ذلك بأن “الكيان الكردي سيكون لجميع أبنائه من الكرد والتركمان والعرب”… فهم يتحدثون، في الحقيقة، عن إنشاء دولة كردية انفصالية في العراق، تحت شعار الفدرالية. وهو ما لا يرضاه العرب ولا التركمان ولا الوطنيون-الديمقراطيون الأكراد. ولسوف تؤسس هذه المطالبة المشبوهة لتفجير الدولة العراقية، وإشعال ألوان من الاقتتال الأهلي.
وإذا رأينا إلى المشهد بعين التحليل الموضوعي، وجدنا أن تعاظم التيار الإسلامي بين الأكراد، ربما يكون حلّاً للمشكلة. أولاً، بتجاوز الصراع الإثني عبر الهوية الإسلامية المشتركة؛ وثانياً بإيجاد رابطة سنيّة توازن الرابطة الشيعية، وتؤسس للتوافق الوطني.
و”التشيع” و”التسنن” كلاهما-لمن لا يعرف-عراقي.
فالعراق هو منبت الشيعة والسنّة. وهما تعبير عن الحيوية التاريخية لمجتمع واحد. وإذا كانت هناك معطيات عديدة تشير إلى أن الانقسام الطائفي في العراق غير أصيل بل مصنوع، فإن التمايز بين الشيعة والسنة في العراق، موجود، وله أسسه الاجتماعية والثقافية والسياسية، من دون أن تكون هذه الأسس مضادة للوحدة العضوية للعراق العربي.
كان السنة “عثمانيين” في العراق، ثم انضووا في تيار القومية العربيّة، وراء الملك فيصل ومن بعده حزب البعث والرئيس صدام حسين… بينما عبّر شيعة العراق عن أنفسهم، سياسياً، للمرة الأولى، في ثورة العشرين الوطنية التحررية، ولاحقاً في الحركة الشيوعية ويسار حزب البعث. ولم تكن الملكية قبل 14 تموز 1958، بقادرة على استيعابهم كمعارضة اجتماعية-سياسية شعبية. وربما كان الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الرئيس صدام حسين، أنه دمّر اليسار البعثي والشيوعي في أواخر السبعينيات، فنشأ فراغ سياسي في الشارع الشيعي ملأه أصحاب العمائم السود والأحزاب الطائفية مثل حزب الدعوة و”المجلس الأعلى للثورة الإسلامية” والأخير هو منظمة تتبع المخابرات الإيرانية. وقد انتهى الحزبان إلى أحضان الأميركيين.
وقد نشأ، في التسعينيات، تيار شيعي شعبي مطلبي يرفض الارتباط بطهران وينادي بالتغيير السلمي وينبذ العنف في معارضة نظام الرئيس صدام. وقد أخطأ الأخير، مرة أخرى، بمحاصرة هذا التيار العراقي العربي الذي أسسه وقاده “الصدر الثاني”. وعلى الرغم من أن هذا التيار هو الأقوى بين الشيعة، فإن افتقاره إلى القيادة أضعفه. ويظهر وريث مؤسس “حركة الصدر”، “مقتدى الصدر”، الكثير من الاضطراب السياسي وانشداه العزيمة وضعف الإرادة، والتأرجح، مما أفقده الصدقية.
وهكذا، انتهت الكتلة الشيعية إلى السير وراء “المرجعيّة” كملاذ أخير. وأصبح واضحاً للأميركيين أن “السيستاني” هو صاحب القرار الأخير في الشارع الشيعي. وقد قرروا التفاهم معه.
ويريد السيستاني شيئين: الأول، ضمان الهيمنة الطائفية على الدولة العراقية الجديدة، ضماناً لهيمنة “المرجعية؛” والثاني، استبعاد القيادات الشيعية التي جاءت من الخارج-أي بعد الاحتلال –ضماناً لهيمنته وأنصاره على المرجعية، واستقلالها عن إيران.
وعلى الرغم من أنه يستبعدهم، فلا تستطيع القيادات الآتية من الخارج، مثل عبد العزيز الحكيم أو أحمد الجلبي، سوى استرضاءه، والموافقة على سياساته.
ومن أجل تحقيق هذين الهدفين، يطالب السيستاني بإجراء انتخابات مبكرة في العراق، وربما يوافق على صيغة أخرى، ولكنه، في كل حال، يريد ضمان الهيمنة على التشكيل السياسي الجديد. ومن الواضح أن المحتلين الأمريكيين–الواقعين تحت ضغط المقاومة العراقية– مضطرون للتفاهم مع السيستاني، وسيعقدون، على الأرجح، الصفقة الأساسية، معه لا مع سواه.
ولماذا الانتخابات فوراً؟ لأن القوى السياسية الحزبية الوطنية لن تستطيع أن تكسب الجولة الانتخابية في الظروف الحالية.
وبالمقابل، يسعى الأميركيون إلى التفاهم مع القوى الاجتماعية التي تدعم المقاومة وتزودها بالرجال والمشروعية في أوساط العرب السنّة.
وإذا كل ذلك يشكل مرحلة جديدة في مأساة العراق، ويعرضه، أكثر فأكثر، لأخطار الانقسامات الأثنية والطائفية، فإنه يظهر عمق المأزق الأميركي في العراق. فليس أمام الولايات المتحدة فرصة لإعادة بناء العراق-مثلما تريده– ليبرالياً يهيمن عليه عملاؤها المباشرون. وأفضل فرصها الآن هو السماح بإقامة جمهورية ممزقة تحت سيطرة الملالي تواجه تمرداً سنياً دائماً ونزعة انفصالية كردية متعاظمة.