العرب اليوم
ناهض حتر
انتهت المرحلة الانتقالية!
وبدأت صورة العهد الاردني الجديد، تتشكل على ايقاع ضرورة الخروج من الازمة الاقتصادية والفوضى السياسية اللتين ارهقتا البلد، منذ العام 1994.
وسأعيد الى الذاكرة ايجازاً لما حدث خلال هذه السنوات السبع العجاف:
صيف العام، 1993 فاجأتنا منظمة التحرير الفلسطينية بالتوصل مع الاسرائيليين، بعد محادثات سرية، الى صفقة «اوسلو». وقد ادى الاعلان عن هذه الصفقة الى بروز الاتجاهات التالية في بلدنا (1) اضطراب سياسي، ثم سقوط كل التحفظات والاشتراطات السابقة على الصلح المنفرد غير المشروط مع اسرائيل، استدراكاً (تبين انه وهمي) لمصالح الاردن ودوره الاقليمي. (2) جمود مفاجئ في الاستثمارات المحلية، ناجم عن الاوهام التي اشاعها الاعتراف الاسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية، وما جرى تخيله من آفاق دولة فلسطينية تتحول الى نمر اقتصادي، ومن دور اقليمي خاص للفلسطينيين في الوساطة بين المركز الامبريالي الاسرائيلي والاطراف العربية. فالرأسمالية الفلسطينية – وقد هزتها التطورات السياسية – اخذت موقف الانتظار والترقب ومن ثم التوجه بحذر، الى استثمارات تجريبية في الاراضي الفلسطينية. (3) وفي هذه الاجواء، وجد التيار الكمبرادوري المتأسرل، فرصته السياسية، لتجميع قواه، وفرض حضوره على الحكم، قبل الاستئثار به، وهو ما حدث لاحقاً.
خريف العام 1994، وقع الحكم متعجلاً ومتحسباً من التحالف الناشئ بين «فتح» و«حزب العمل»، انذاك المعاهدة الاردنية-الاسرائيلية في «وادي عربة» وكان المضمون الاساسي لهذه المعاهدة سياسياً محوره الحصول على «اعتراف» اسرائيلي بكيان المملكة الاردنية الهاشمية، والحفاظ على دورها الاقليمي. ولذلك، وافق المفاوض الاردني على الاقرار بالوقائع القائمة فعلياً، فاعترف «بحقوق» تملك واستئجار ومصالح اسرائيلية في الاراضي الاردنية «المستعادة» واقر بالنهب الاسرائيلي للحقوق المائية الاردنية في نهر الاردن، وانزلق الى القبول بالتوقيع على جملة من الاتفاقات الثنائية، في كل مجال ممكن، ما جعل من معاهدة «وادي عربة»، في الحقيقة، لا معاهدة سلام، فقط، بل معاهدة صداقة وتعاون. وبهذه الروح، جرى التعاهد على تحييد القضية الفلسطينية وظلالها الاردنية (اللاجئون) من العلاقات الثنائية التي جرى الدفع لتسخينها على كل صعيد. وقد استثني من ذلك التحييد، النص على دور اردني خاص في رعاية الاماكن المقدسة الاسلامية في القدس، مرحلياً، وفي مباحثات الحل النهائي حولها.
وقد اشيع الكثير من الاوهام حول ثمار المعاهدة الاقتصادية، الا ان المحصلة كانت ضئيلة للغاية. فلم يجر شطب الديون الاردنية – كما كان متوقعاً – ولم يحصل الاردن على مساعدات اميركية جدية، ولم تسمح اسرائيل في تحالف ضمني مع السلطة الفلسطينية بحرية التعامل التجاري الاردني مع السوق الفلسطيني.
وبالرغم من ان النتائج السلبية تلك، ظهرت سريعاً، وبدا واضحاً للعيان ان المشاريع الاردنية الطموحة قد تحولت، ولم يجف حبرها بعد، الى ادراج النسيان، فان السياسة الاردنية لم تتراجع عن هذا الخيار، بل هربت، في اطاره، الى الامام. فقد استطاع التيار الكمبرادوري المتأسرل ان يولد، لدى الحكم، القناعة التالية: ان ثمار «السلام» لن تتحقق، طالما ظلت البنية السياسية الاردنية التقليدية قائمة، وطالما ظل الاردن يرتبط بعلاقات استراتيجية مع العراق. فمن اجل استعادة الدور الاقليمي، وجذب الاستثمارات والمساعدات، لابد من اتباع السياسات التالية: (1) احداث قطيعة سياسية مع بغداد، والانخراط في الجهود الاميركية لاسقاط النظام العراقي. (2) توجيه ضربة للقوى التقليدية الاردنية، تشل معارضتها للخصخصة و«الانفتاح» السياسي والاقتصادي، و«تطهير» جهاز الحكم من اصدقاء العراق (3) اقامة علاقات ودية مع السلطة الفلسطينية، وخلق الظروف السياسية الداخلية الملائمة لادماج الاردنيين من اصل فلسطيني في البيئة السياسية الاردنية، بصفتهم يشكلون القاعدة الاجتماعة الجديدة للنظام الاردني في مرحلة «السلام» والانفتاح والخصخصة.
واذا كانت ملامح هذه السياسات، بدأت تفرض نفسها على توجهات الحكم منذ خريف عام 1995، فقد اصبحت في ربيع العام التالي، هي السياسات الرسمية المعتمدة. وبالرغم من التراجعات التى حدّت من اندفاع التيار الكمبرادوري المتأسرل، جراء المقاومة الشعبية، ولاسيما انتفاضة آب 1996 وشباط 1998، وضغوط القوى التقليدية، فان هذا التيار ظل قوياً واساسيا ًفي عملية اتخاذ القرار.
وفي هذا السياق كان يتبلور خط مواز، يريد استجماع الاوراق (العلاقات الساخنة مع اسرائيل، والدور الاردني المأمول في العراق، والتحالف السياسي الموضوعي مع اليمين الاسرائيلي، ومع حركة المقاومة الاسلامية «حماس») من اجل استعادة دور تدخلي على المسار الفلسطيني.
وهكذا، بدا انذاك ان الصراع في اطار السياسة الرسمية، يدور بين هذين الخطين: الخط الكمبرادوري المتحالف مع السلطة الفلسطينية وحزب العمل الاسرائيلي، والخط البيروقراطي المتحالف مع «حماس» واليمين الاسرائيلي!
وقد ورث الملك الشاب، هذه التركة الثقيلة. ويقتضي الانصاف القول ان حكومته الاولى برئاسة عبد الرؤوف الروابدة، والثانية برئاسة علي ابو الراغب، سارتا اشواطاً في تفكيك عناصر تلك التركة، ما يجعلنا نأمل بالخلاص منها كلياً في مدى قريب.
– الروابدة استعاد هيبة الحكم، وتفاهم ضمنياً مع «المعارضات» في الشارع الاردني، من اجل تجاوز المرحلة الانتقالية الخطرة والح على الشخصية الاردنية للدولة وابتعد عن اسرائيل، ودفع نحو الانفراج الداخلي.
وكان انجازه الرئيسي الغاء الاتجاه التدخلي في المسار الفلسطيني، فنزع المسمار الاردني من الشأن المقدسي، والغى التحالف مع كل من اليمين الاسرائيلي و«حماس» ورسخ سياسة الابتعاد عن اللعبة باقرار سياسة الاعتراف غير الملتبس بالدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس (وليس في القدس، كما كان الامر في السابق).
الا ان الروابدة فشل في تحقيق اختراق اقتصادي كان وسيظل عنوانه: تجديد العلاقات الاستراتيجية مع العراق. وربما كانت الظروف لم تنضج لذلك بعد، لكنه، على كل حال، وجه للتيار الكمبرادوري ضربات موجعة، مهدت الطريق، موضوعياً، للانجازات التالية.
– وجاء ابو الراغب في وضع اردني اصلب. واذا كان انجازه الرئيسي انه استعاد العلاقات الاستراتيجية مع العراق. فلا ننسى ان حكومته هي الحكومة الاردنية الاولى التي تعلن، صراحة، انها لن توطن لاجئاً جديداً، وانها طرحت، وان على استحياء، قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين في الاردن الى ارض وطنهم بوصفها سياسة رسمية… بالاضافة الى ان الابتعاد عن اسرائيل، اصبح هو الميل السائد في الرأي العام الاردني. ومن المأمول ان يتكرس هذا الميل في السياسة الرسمية الاردنية، بذكاء وهدوء، ولكن بقوة وحسم، باتجاه اعادة طرح القضايا الاردنية ازاء العدوان الاسرائيلي: (1) استعادة السيادة الاردنية على الباقورة والغمر (2) استعادة الحقوق المائية الاردنية في نهر الاردن (3) عودة اللاجئين والنازحين الى ارض وطنهم (4) رفض اي ترتيبات امنية اسرائيلية-فلسطينية من شأنها الاضرار بالامن الوطني الاردني (ولا سيما الابقاء على قوات اسرائيلية في الاغوار الفلسطينية).
هذا الاتجاه الايجابي العام ما يزال في بداياته، وكان بالطبع نتيجة نضال الاردنيين وتضحياتهم في السنوات السبع العجاف، ولكن وقائع الأزمة الاقتصادية الصعبة، والانفراج الاقليمي الحاصل بسبب نضال الفلسطينيين وتضحياتهم في «انتفاضة الاقصى» وصحوة الجماهير العربية… كل ذلك، سمح ويسمح بالمزيد من الخطوات الشجاعة على طريق الخلاص من مرحلة سوداء.0
المرحلة الانتقالية انتهت، والعهد يشكل صورته1994 – 2000: هل نتنفس الصعداء؟
Posted in Uncategorized.