*
تحت تأثير ثلاثة عوامل متضافرة، تتجه الولايات المتحدة الأميركية إلى انسحاب استراتيجي، لا من العراق فقط، بل من الشرق الأوسط كله. وهذه العوامل هي الآتية:
1ــــ ضغوط الأزمة المالية الاقتصادية التي لا تزال «قنبلة موقوتة» قد تنسف كل خطط الإنقاذ، وتهوي بالدولار والنظام المالي والاقتصادي الأميركي إلى الانهيار. وهو ما يتطلب من إدارة الرئيس باراك أوباما، شاء أم أبى، منح الأولوية لإعادة هيكلة الاقتصاد، التي قد تتطلب معركة سياسية داخلية في قضية زيادة الضرائب على الأثرياء مثلاً، لكن، وخصوصاً، إذا اضطرت واشنطن إلى تأميم البنوك كدواء لا مناص منه مثلما يقترح حائز نوبل، بول كروغمان، وهو ما يفرض تلافي الوقوع في نزاعات جديدة وخفض التوتر في السياسة الخارجية. ويقدم البيت الأبيض بانتظام، الدليل تلو الدليل على اتجاهه إلى الحوار والحلول الدبلوماسية (مغازلة إيران وسوريا وحتى السودان، والتركيز في أفغانستان على مقاتلة القاعدة دون طالبان…).
2ــــ ضغوط إعادة توزيع السلطات في النظامين المالي والاقتصادي العالمي مع أوروبا، لكن وخصوصاً مع الصين وروسيا والهند والبرازيل. وهذه العملية التي لا تستطيع الولايات المتحدة قبولها بالكامل، أو بالمقابل التهرّب منها، تضع الإدارة الأميركية في أتون صراع فوق الطاولة وتحتها مع القوى العالمية، وصولاً إلى تسويات تسمح بتعاون تلك القوى لإنقاذ أميركا بالحد الأدنى من التنازلات المؤلمة عن الموقع القيادي في النظام العالمي. وهو ما انتهى إليه مؤقتاً مؤتمر «قمة الـ 20» الإنقاذي في لندن. وستُترجم هذه التسوية، سياسياً، بالحد من النزعة التدخلية الأميركية إلى حد كبير، ليس فقط مقارنة بعهد جورج بوش، بل مقارنة بأي عهد سابق خلال القرن الأميركي المنصرم.
3ــــ ضغوط إعادة تعريف الخطر الأمني على مصالح الولايات المتحدة، من كونه خطراً سياسياً، إلى كونه خطراً اجتماعياً يهدّد النظام الرأسمالي العالمي برمته. فلم يعد «العدو» يتمثل في شبكات «إرهابية» و«دول مارقة»، بل في ثورات اجتماعية يلوح شبحها عبر العالم كله. ولست هنا في معرض الاسترسال في توضيح هذه الضغوط التي تعيد صياغة السياسات الأميركية ومناقشتها، فما يهمني هو الاتفاق مع القارئ في نقطة واحدة هي أن الضغوط الأميركية، ووسائلها، على الأنظمة العربية، هي الآن في أضيق الحدود، وأنها لم تعد صالحة لتبرير سياسات هذه الأنظمة التي طالما تذرعت بالخطر الأميركي أو بالضغوط الأميركية للسير في برامج لا تحظى أقله بالإجماع الوطني.
يطرح علينا ذلك ضرورة التفكير بالعوامل الداخلية التي تحدد في النهاية، وقبل أية عوامل خارجية، سياسات أنظمتنا وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والوطنية. وكيما أكون عادلاً، سأتوقف هنا عند سياسات، كان يُقال إنها تتم تحت أخطار وضغوط خارجية، ولكنها لا تزال مستمرة، في بلدين أحدهما «ممانع» (سوريا) والثاني «معتدل» (الأردن).
أصبح واضحاً الآن أن سوريا كسبت جولة الصمود على جميع المسارات. وبينما كان نظامها نفسه مهدداً في عام 2005، أصبحت سوريا اليوم في قلب العملية السياسية في المنطقة، بأدوار معترف بها، بل مطلوبة في لبنان وفلسطين والعراق. تحتاجها السعودية من أجل خفض النفوذ الإيراني وضبطه، وتحتاجها واشنطن عنواناً للحوار ووسيطاً ومركزاً للتسويات. وعلى رغم الديموغوجية اليمينية الإسرائيلية، فإن تل أبيب اليوم هي أضعف من أي وقت مضى، تواجه أزمة المشروع والمشروعية، وتفتقر إلى مبرر قوتها (المثلومة على كل حال في لبنان وغزة) في ظل حقبة سلام أميركي في المنطقة بدأت فعلاً مع سوريا وإيران، بل حتى مع «حماس» وحزب الله. وتعاني إسرائيل وستعاني أكثر العزلة حتى في علاقاتها مع واشنطن. وكل ذلك، بما يخلقه من القلق العميق، يدفع بالمجتمع الإسرائيلي نحو اليمين الفاشي السائر في طريق مسدود.
على هذه الخلفية، يبرز سؤال آن أوان طرحه: ما الداعي إذاً لاستمرار نهج الاعتقال السياسي وكبح حرية التعبير والإعلام وتحجيم الأحزاب في سوريا؟ لكن السؤال الأخطر هو: لماذا تمضي سوريا في طريق الليبرالية الاقتصادية والخصخصة وحرية السوق وتشجيع الاستثمارات الأجنبية و«التطوير العقاري» واستحداث بورصة للأوراق المالية، مستهدفة نموذجاً سقط على المستوى العالمي؟
لا الانتصارات السياسية الخارجية، ولا الأزمة المالية الاقتصادية العالمية، دفعتا بدمشق لوقفة مراجعة نقدية بشأن سياسات اللبرلة الاقتصادية التي فاقمت، بصورة غير مسبوقة، الفجوة الهائلة بين الأغلبية الكادحة والأقلية المثرية التي تلح على المزيد من امتيازات الرأسمالية المتوحشة في بلد يحكمه حزب اشتراكي!
يشدو الإعلام السوري ويبشر بـ«إنجازات» ستؤدي إلى قفزة في قطاعي العقارات والأوراق المالية. وهما قطاعا الاقتصاد الافتراضي اللذان كانا وراء الأزمة العالمية. كيف نفسر ذلك إلا بالعامل الداخلي؟ أعني قوى محلية تُسر بالخطر الخارجي لكي تستبد، متحالفة مع قوى تستفيد من نجاحات الصمود التي دفع ويدفع الشعب ثمنها، لكي تترجم وضع سوريا الإقليمي القوي إلى شراكات استثمارية لمصلحة الفئات الطُفيلية، وعلى حساب الصناعة والزراعة وتعطيل قوى الإنتاج وزيادة معدلات البطالة والفقر. في الأردن، وبعد ثماني سنوات من اعتياد الانصياع الكامل «للضغوط» الأميركية، والتفاعل الحار معها، يبدو القرار السياسي الأردني ضائعاً مع تراجع، أو قل تلاشي تلك الضغوط. وكأن السياسة الأردنية أصبحت تخشى من الاستقلال، بل كأنها لم تعد تتذكر أسلوب المناورة الشهير لعهد الملك حسين.
باراك أوباما، لا جون ماكين، هو مَن فاز في الانتخابات الرئاسية الأميركية. هذا الخبر لم يصل بعد إلى المطبخ السياسي الأردني، أو للدقة لم يؤخذ على محمل الجد والتحليل والاستنتاج. وإلا كيف نفسّر إلحاح الحكومة الأردنية الطارئ والمستعجل والملهوف على تنفيذ برنامج استباقي معدّل «للوطن البديل»، في ما يسمى مشروع الأقاليم؟ وهو مشروع يهدف إلى تفكيك البلد إلى ثلاث حكومات محلية بصلاحيات شبه سيادية.
لقد تفتّقت عبقرية السياسة الأردنية عن حل وسط أمام «استحقاق» الوطن البديل. فبدلاً من كل البلد (في تغيير شامل) أو نصفه (في محاصصة «ديموقراطية»)، سيُقسّم البلد إلى ثلاثة أقسام، يُمنح أحدها (إقليم الوسط) لإقامة حكومة فلسطينية محلية في صيغة للحكم الذاتي مؤهلة، موضوعياً، للتلاقي مع كانتونات الحكم الذاتي في الضفة الغربية. وربما لا يُعلن عن كونفدرالية، ولكن الأرجح هو التعاطي مع برنامج نتنياهو «للسلام الاقتصادي» المأمولة ثماره على ضفتي النهر. ولكن مَن قال إن الأردن، موضوعياً، مضطر إلى ذلك؟ الآن تحديداً، لا «ضغوط» تبرر هذه «القفزة في الهواء» على حد تعبير وزير الداخلية السابق، سمير الحباشنة.
ولكن، لم لا نقولها بوضوح: ليست تلك ضغوطاً أميركية، بل ضغوط لوبي داخلي من الفئات الكمبرادورية التي ضاقت ذرعاً بوجود دولة مركزية في البلاد، وتريد تحويلها كلها إلى «منطقة استثمارية حرة»، بلا هوية وطنية، ولا قيود دستورية، ولا معارضة، ولا بنى دولتية، ولا سيادة. وفي هذه الفوضى، حيث ستكون صيغة لحكم ذاتي يحل مشكلة التمثيل السياسي لفلسطينيي الأردن، هناك فرص لإعادة تحفيز القطاعين العقاري والمالي واستثمار الخدمات السياسية للسلام الاقتصادي. بانتظار ذلك، وعلى الضد من توجهات البيت الأبيض نفسه، تدفع الحكومة الأردنية نحو: 1ــــ خفض ضريبة الدخل على البنوك وشركات الاتصالات والمناجم والعقارات لتمكينها من الاستمرار في جني المزيد من الأرباح المليارية على حساب الخزينة والخدمات الاجتماعية. 2ــــ الضغط على الوعاء الادخاري للعاملين والمتقاعدين (الضمان الاجتماعي) لتمويل شركات خاسرة أو مشاريع غامضة على حساب المستقبل التقاعدي لمئات آلاف المواطنين. هذه الحزمة من السياسات ليست مطلوبة أميركياً. كلا. بل هي مطلوبة من قوى داخلية أصبحت مستعدة حتى لتفكيك الوطن من أجل نيل حصتها.
* كاتب أردني
المحافظون الجدد بين ظهرانينا: الحرب في الداخل
Posted in Uncategorized.