الليبراليّ والإسلاميّ: جدل العلاقة الملتبسة في السيــاق الأميركي ــ الخليجي ــ الإسرائيلي

الليبرالي والإسلامي يتناقضان مع اليسار الحقيقي (أرشيف ــ مروان طحطح)

يمكن للقوميّ أو للشيوعيّ أن يجدا، في صلب تكوينهما الفكري السياسي، مساحةً ما للشراكة مع الإسلاميّ في ظروف محددة عيانية تتصل، حصراً، بممانعة أو مقاومة عدو خارجي. لكن لا يوجد ما يجمع الليبراليّ، في المبدأ والعقيدة، مع الإسلاميّ قطعياً. فالفكرة الجوهرية، عند الأول، هي الحرية الفردية المقدّسة المرفوض إخضاعها لأي ضوابط سوى الضوابط القانونية حصرياً. أما الفكرة الجوهرية، لدى الثاني، فهي تقييد الحرية الفردية بالمقدّس الشرعي، بينما يقيّدها القوميّ بمصالح الدولة، واليساري بمصالح المجتمع. لكي تكون ليبرالياً مخلصاً، عليك أن تكون منحازاً تماماً لحرية الرجال والنساء، غير المقيدة، في المأكل والمشرب والملبس والعلاقات الشخصية والجنسية ــــ على تنوّعها وحميميتها بما فيها العلاقات المثلية ــــ وفي اتباع المعتقدات والأفكار الدينية والمذهبية المختلفة أو الإلحادية، وفي استهلاك المنتجات الثقافية والفنون بلا تمييز، من الأدب الرفيع إلى أفلام البورنو ومن الموسيقى الكلاسيكية إلى موسيقى الروك آند رول إلى موسيقى عبدة الشيطان… الخ. ولعله من نافلة القول أن الجُمَل السابقة، وحدها، كفيلة بإحداث صعقة لدى الإسلاميّ. لذلك، فإن المرء ليحار حقاً في شأن هذا التفاهم العميق والتحالف الوثيق المتوطدَين بين الليبراليين والإسلاميين في بلادنا، حتى أنهما يعملان، في مجرى ما سُمّي الربيع العربي، في خلية سياسية وفكرية وإعلامية واحدة! بحيث يصعب التفريق بين مواقفهما.
يهتف الليبرالي والإسلامي في سورية بهتاف مشترك: حريّة! حريّة!. الحرية بالنسبة للأول هي حرية الفرد في مواجهة الدولة والمجتمع، بينما هي، عند الثاني، حريّة الجماعة الإسلامية المذهبية الحزبية في مواجهة الجماعات الدينية والمذهبية الأخرى، وفي مواجهة الفرد على إطلاقه. فكيف يتوحد الشعاران؟
يعرف الليبرالي، مثلما نعرف، أن موازين القوى على الأرض هي لمصلحة الجماعات الدينية المذهبية المتطرفة، وهو يدعمها ويقدّم لها الغطاء السياسي بحجة الهدف المشترك ضد «الطاغية» القومي. لكن المشترك بين الليبرالي و«الطاغية» القومي هو، على صعيد الحريات المدنية والشخصية، أكبر مما بين الليبرالي والإسلامي اللذين يشتركان، اليوم، في مطلب الحريات السياسية والشرعية الانتخابية. لكن في الواقع لا مكان للحريات السياسية الأساسية المنطلقة من حرية الفرد لدى الإسلامي الذي يعتبر الآخر المذهبي، عدواً، والآخر المختلف معه، سياسياً أو فكرياً أو فقهياً، كافراً بحيث يجوز قتله فوراً في محاكمة ميدانية أو، في حالة السلم، إلغاؤه، مواطناً وإنساناً، من خلال تكفيره. أما الشرعية الانتخابية، فهي، في ظل الهيمنة الإسلامية، مزوّرة، ابتداء، طالما أن الاقتراع، هنا، ليس اختياراً سياسياً حراً، إنما هو اختيار بين الكفر والإيمان المعزَّز، بالطبع، بالإحسان المموّل بالبترودولار.
هل يمكن وصف الانتخابات التونسية والمصرية بالحرّة، مع كل تلك الدعاية الدينية والطائفية المستثيرة للغرائز، ومع كل ذلك الإرهاب الفكري المعزز بالقدرة على ممارسة الإرهاب الفعلي، ومع كل هذه الأموال التي تنهال على الإسلاميين من شيوخ الخليج الوهابيين؟
كيف يستقيم لليبراليّ مخلص أن يؤيد الوهابية التي تنطوي على تكفير كل المذاهب الأخرى، بل والأنماط الشعبية والحضارية من التديّن، فما بالك بالأنماط الفكرية المتحررة من الدين؟ وبالمقابل، كيف للوهابيّ أن يدعم ويموّل ويستكتب الليبراليين ــــ الكفرة؟
هنالك جدل ملتبس بين الاتجاهين، بعضه محجوب وبعضه ظاهر، بعضه فكري وبعضه سياسي، يقف وراء هذه الظاهرة العجيبة. وسنحاول، تالياً، الكشف عن ذلك الجدل ومحتواه ومحطاته الأساسية:
أولاً، إن الليبرالي والإسلامي يتوحدان، فكرياً، في منطقة ثالثة هي منطقة النيوليبرالية، أي حرية اقتصاد السوق غير الخاضعة لأيّ ضوابط اجتماعية جوهرية. فالليبرالي، في العمق، مستعد للتضحية بحرية الفرد الثقافية لصالح حرية رجل الأعمال. وهي حرية مكفولة، لدى الإسلاميّ، بلا حدود.
ثانياً، إن الليبرالي والإسلامي معاديان للوطنية والقومية؛ يعتبرها الأول نافلة وفائتة وقمعية، ويعتبرها الثاني عصبية مذمومة وجاهلية. ورغم أن كلاً منهما يعادي الوطنية والقومية، لحسابات مختلفة، عولمية لدى الأول وأممية إسلامية لدى الثاني، فإن المشترك بينهما هو وجود أرضية شرعية للتفاهم مع الغرب الإمبريالي خارج قيود المصالح القومية.
إن «الأستاذية» التي يختزنها الإسلاميّ للغرب ــــ وللعالم كله ــــ لا تتعارض، من حيث المبدأ والواقع، مع الإمبريالية والسياسات التوسعية للدول الإقليمية. ذلك أن لتلك الأستاذية مجالاً وحيداً هو المجال الديني ــــ الثقافي. ولذلك، فإن موقف الإسلامي من الدول الإمبريالية، يتحدد بموقف الأخيرة من الإسلام والجماعات الإسلامية، وليس بالمصالح القومية، الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والجيوسياسية، للدول المسلمة. وهكذا، رأينا أن دعم الإمبريالية الغربية وخصوصا الأميركية، لتولّي الإسلاميين الحكم في تونس ومصر، قوبل من قبل الإسلاميين بالاعتراف الصريح بمصالح الإمبريالية الاستراتيجية في البلدين اللذين أقرّ الإسلاميون فيهما هيكلية التبعية الاقتصادية والعسكرية والسياسية للغرب الإمبريالي ــــ بما في ذلك معاهدات الإذعان مع إسرائيل ــــ كذلك، تحالف الإسلاميون مع الناتو ضد العدو المحلي المتمثل في نظام معمر القذافي في ليبيا. ومن الواضح اليوم أن الليبراليين والإسلاميين الليبيين مستعدون معاً لتسديد فواتير الناتو ودول الخليج ــــ خصوصاً قطر التي موّلت الحرب على ليبيا بملياريّ دولار ــــ وتأمين المصالح الغربية الخليجية في بلد تحوّل، عملياً، إلى مستعمرة.
وفي سورية، استعاد الإسلاميون، بتياراتهم الإخوانية والجهادية والقاعدية، التحالف القديم ــــ الجديد مع الغرب الإمبريالي ضد العدو الداخلي المتمثل في نظام الرئيس بشار الأسد وأنصاره واتباع الديانات والمذاهب الأخرى، ولو تم ذلك على حساب وحدة واستقلال الدولة السورية، بل إن الإسلاميين يرجون ويسهّلون تدخلاً تركياً لنصرتهم في سورية، حتى وهم يعرفون أن هذا التدخّل توسعي ويستهدف تحقيق الأطماع التركية في بلدهم.
وليس لدى الليبراليين، على كل ذلك وسواه، أدنى اعتراض؛ بالعكس، فهو يتوافق تماماً مع نزوعهم إلى تسخيف الوطنية واعتبار التفلّت من قيود الدولة الوطنية، ضرورة للبرلة بلادهم. ويعتبر المتمركسون منهم أن جدل الصراع الرئيسي هو مع الدولة الوطنية التي ينبغي كسرها بأي ثمن (خسارة الاستقلال والحكم الرجعي الدموي للإسلاميين) مقدمة لإطلاق القوى الليبرالية من عقالها في العملية الديموقراطية اللاحقة!
ثالثاً، إن الليبرالي والإسلامي يرفضان مفهوم الامبريالية وصراع الشعوب التحرري التاريخي معها. هو، عند الأول ذي المرجعية الغربية، غير موجود أساساً، وله، عند الثاني، طابع ديني ثقافي عنصري، بلا مضمون اجتماعي تاريخي. وليس لدى الاثنين أي مشكلة جوهرية في التعامل السياسي مع الدول الإمبريالية والتفاهم معها حتى في ظروف الاحتلال، كما حدث في مثالي العراق وليبيا، وكما يحدث الآن من تفاهمات في ظل ما يسمى الربيع العربي بين الخلية الليبرالية ــــ الإسلامية والغرب الإمبريالي، في سورية.
رابعاً، إن الليبراليّ والإسلاميّ ينظران إلى الصراع مع إسرائيل في ضوء السياق الذي حددناه سابقا؛ فالصراع مع العدو الإسرائيلي ليس مركزياً، وإنما الصراع المركزي هو مع قوى الدولة الوطنية المضادّة للمشروع الإسلامي ــــ الليبرالي. وهذه الأولوية، تتطلّب، حتما، وضع الصراع العربي ـ الإسرائيلي جانبا؛ فمن دون ذلك ستنتصر المقاربة الأيديولوجية السياسية القومية التي من شأنها أن تمنح الشرعية لنظام مقاوم كما في سورية، وتؤكد، تالياً، على جملة من التحالفات الداخلية والخارجية التي تعرقل الحرب على الدولة الوطنية، وتطرح ضرورة التفاهمات الداخلية. من جهة أخرى، فإذا كان قيام الحكم الإسلامي بالحرب كما في سورية، أو بالشرعية الانتخابية كما في مصر، يتطلب دعم الإمبريالية الأميركية، والتفاهم معها، فإن الاستمرار في اتخاذ مواقف معادية نحو إسرائيل المحمية أميركياً، سيحرم الإسلاميين والليبراليين من الدعم الأميركي ــــ الخليجي الذي لا غنى عنه لربح الحرب المحلية، بالقوة أو بالانتخابات. وهكذا، يتوافق الليبرالي والإسلاميّ على تسخيف سياسات المقاومة الوطنية الدولتية (سورية) أو شيطنتها مذهبياً (حزب الله) أو سحبها إلى المعسكر المضادّ بغرض إعادة تأهيلها في سياق المشروع الليبرالي ــــ الإسلامي، الأميركي ــــ الخليجي( حماس). وعلى هذا، يمكننا أن نفسّر عواطف راشد الغنوشي الودية نحو إسرائيل، وحرص إخوان مصر على تأكيد عدم المساس بكامب ديفيد، والتوجهات الصريحة للمعارضة السورية نحو السلام مع الإسرائيليين.
خامساً، إن الليبرالي والإسلامي أصبحا متوافقين على تقديس صندوق الاقتراع كأداة ديموقراطية وحيدة؛ هو، عند الأول، من صلب عقيدته السياسية، وهو، عند الثاني، متوافق اليوم مع مصالحه السياسية (كان ضده عندما كان صندوق الاقتراع لا يوصله إلى السلطة، وسيعود ضده عندما يفقد كتلته التصويتية). وصندوق الاقتراع، عند الاثنين، يساوي الديموقراطية. وهي، هنا، ديموقراطية مسطّحة لأنها غير مشروطة، عندهما، بالوطنية ولا بالتنمية ولا بالعدالة الاجتماعية.
سادسا، إن الليبرالي والإسلامي يحتاجان بعضهما بعضاً كعاشقين؛ فالأول بلا جمهور، والثاني بلا مثقفين. لكن العلاقة بينهما هي ضرب من زواج المتعة؛ فحالما ينتهي الإسلاميّ، باستلامه السلطة، من حاجته إلى الليبرالي، سيلقي به جانبا عارضا عليه: التأسلم أو الإلغاء.
هكذا انتهى الأمر بعزمي بشارة (الذي صنّعته الدوحة، بإعلامها ومالها، «مفكراً عربيا» طالما استخدم، لكي يبرّر لقبه ذاك، مزيجاً ساذجاً من أفكار قومية مائعة وليبرالية خارج مجالها التاريخي)، إلى التأسلم على مذهب ابن تيميه، واعتبار الوهابية، المنطلق التاريخي والحافز الأيديولوجي للديموقراطية العربية! وعليه، سيكون حمد بن جاسم، إذاً، بطل حرية العرب في القرن الحادي والعشرين!
سابعاً، إن الليبرالي والإسلامي يتفقان، جوهرياً، على التناقض مع اليسار الحقيقي (وليس اليسار الليبرالي) ذلك أنهما، كلاهما، يرفضان الصراع الطبقي والمنظور الاجتماعي للدولة الوطنية، بل هما يرفضان الدولة الوطنية نفسها، من حيث هي، في ظروف العالم الثالث، إطار لاجم للجماعات الدينية والمذهبية وللفرد وللمصالح الكمبرادورية معا.
ثامناً، إن الليبراليّ والإسلاميّ ينطلقان من البراغماتية في أوسع حدودها انتهازية، وينفران من المبدئية في ممارسة العمل السياسي، ويعتبران السياسة فن الممكن الراهن في ميكافيللية مبتذلة. ذلك أن الميكافيللية، في سياقها التاريخي ومضمونها الفكري الأساسي، تكتسب وجاهتها من ارتباطها بسياسة الدولة القومية. وبدون هذا الارتباط، فهي تتحول إلى مجرد ممارسة انتهازية رخيصة.
تاسعاً، إن الليبرالي والإسلامي لهما مرجعية سياسية ومالية واحدة تتمثّل في الخليج الذي يستخدم الطرفين في تجميل قروسطيته والدفاع عنها. وقد عملت السعودية على ذلك، ابتداء، من خلال الصحافة الليبرالية من جهة ودعم الجماعات الإسلامية والطائفية من جهة أخرى. وربما يكون مشروعها اللبناني في تيار المستقبل الرأسمالي الطائفي الليبرالي، نموذجياً في دمج الكمبرادور والطائفة والجماعات الأصولية السلفية والمثقفين الآتين من الفضاء القومي اليساري إلى الليبرالية والنيوليبرالية، معا في خندق واحد، لكن قطر التي تتميز عن نظيرتها الوهابية بعلاقات تنسيق وثيقة مع الخبرة الإسرائيلية وبحرية الحركة وبالقدرة المالية الناجمة عن صغر احتياجاتها المحلية، هي التي يعود إليها أكبر الفضل في الجمع بين الإسلاميين والليبراليين في إطار فضائية حققت حضوراً غير مسبوق حتى تحولت كياناً سياسياً إعلامياً قائماً بذاته، هي قناة «الجزيرة»، وتفرعات ذلك الكيان من مراكز الدراسات والنشاطات البحثية والاستخبارية والصحفية الخ
عاشراً، سر الأسرار في التوافق الحاصل بين الليبرالي والإسلامي، يتمثل، إذاً، في أنهما يعملان لدى المعلّم نفسه، وقد جرى تمويل وإعداد السياق اللازم لتفاهمهما العميق منذ أوائل التسعينيات في سياق تكوين قوة ثقافية أيديولوجية إعلامية تشكّل حصان طروادة الخليجي في المجتمعات العربية، يضمن ألا تتبلور لديها ميول الحقوق القومية في الثروة النفطية، تلك الميول التي أطلقها الرئيس صدام حسين بغزوه الكويت.
لقد ذُهل الخلايجة والأميركيون والإسرائيليون، حينها، لما لقيته تلك المبادرة الصدامية (التي مزجت بين معاداة الخليج ومعاداة أميركا ومعاداة إسرائيل)، من تأييد كاسح بين العرب في بلاد الشام ومصر والسودان والمغرب العربي. صحيح أن الرئيس صدام حسين هُزم في حرب الكويت 1990، لكن فكرة التمرد العربي على الثلاثية الخليجية ــــ الأميركية ــــ الإسرائيلية، بقيت ماثلة ومُلهمة، ويمكن استعادتها دائما في ظل موازين قوى مختلفة. وهو ما استوجب رداً أيديولوجياً استراتيجياً على الطروحات القومية الصدامية، معزَّزا بتحطيم البلد الذي أنتجها. وقد تمثّل ذلك الرد، تحديداً، بتكوين السياق الأيديولوجي الإسلاميّ الليبراليّ.
إن الهجوم الأيديولوجي الكثيف الذي مهّد للغزو الأميركي للعراق، العام 2003، كان مكوناً من طروحات المظلومية الشيعية المتناغمة مع الطروحات الليبرالية الغربية (أين هم الليبراليون في العراق الطائفي اليوم؟). وحالما أنجزت هذه الضفيرة الأيديولوجية، وظيفتها العراقية، قادت السعودية وقطر، سياسياً وأمنياً وإعلامياً، بوساطة قناة «الجزيرة»، حرب التخريب الأيديولوجي للمقاومة العراقية، وتحويلها من رد وطني عراقي على الاحتلال إلى رد مذهبي سنّي على السلطة الشيعية. وهو مسار حصر المقاومة في المناطق الغربية، وحال دون وحدة الحركة الوطنية العراقية، وسمح بتجذّر «القاعدة» وبعملياتها الإرهابية (المستمرة حتى اليوم) في العراق، وتاليا بظهور ميليشيات الصحوات المذهبية في سياق ما عُرف بالعملية السياسية التي رعاها المحتلون في بلاد الرافدين. هكذا تحولت الهزيمة العسكرية للغزاة الأميركيين في الحرب العراقية إلى نصر استراتيجي يتمثل بتفكيك واحدة من الدول المركزية العربية، بل الدولة التي تُعد قاطرة النهضة في المشرق.
البراغماتية الرديئة هي التي حملت النظام السوري على التعاطي الواقعي مع الإرهابيين المذهبيين في العراق (تدفع سورية اليوم ثمن خطأها العراقي). لكن إيران انطلقت في سياساتها العراقية من مصالحها الإقليمية التوسعية ذات الذراع المذهبي، لتمنع، بدورها، وحدة الحركة الوطنية والمقاومة والدولة في العراق، واضعةً تلك المصالح فوق الاعتبارات الخاصة بالصراع الرئيسي مع الإمبريالية والصهيونية. وقد سايرها حزب الله في ذلك، فحجب دوره الممكن في دعم القوى المناوئة للانقسام المذهبي في العراق.
حادي عشر، وكما في العام 2002/ 2003 في العراق، فإن الهجمة الأيديولوجية الممهدة والمرافقة للحرب على سورية، تأخذ طابع التماهي بين المظلومية السنية في هذا البلد وبين الطروحات الليبرالية. ويبدو للمراقب أن الإسلاميين والليبراليين يمشون نحو هدف مشترك في تحالف ندّي. لكن حالما يقيّض للحرب الإرهابية الدولية على سورية، النجاح، سيتبدل المشهد، وسيخرج منه الليبراليون الذين أدوا الدور المطلوب في العرض، بلا أفق سياسي، وإنما بحفنة دولارات لا غير، يمكنهم إنفاقها في عواصم الغرب.
يسقط الليبرالي العراقي ثم يسقط الليبرالي السوري، والفلسطيني والأردني… ماضغين آلامهم أو ساخرين من أنفسهم وهم يشاهدون أفلاماً قديمة تظهرهم بوضوح كشخوص مسرح الدمى، لكن الليبرالي اللبناني يظل صامداً في موقعه، مطلوباً ومستعداً لتقديم الخدمات للثلاثية الأميركية ــــ الخليجية ــــ الإسرائيلية، من الهجمة على العراق إلى الهجمة على سورية إلى سواهما من البلدان العربية إلى الهجمة المستمرة على حزب الله. إنه لا يلعب دورا يحترق، بل يمارس مهنة دائمة، محفَّزا باستعلائه العنصري على العرب أجمعين، ومحصناً بأسبقيته الطائفية والمذهبية المنظّمة في صيغة معترف بها، وفي بلد يظل، على كثرة الأحداث الدامية فيه، خارج الحدث العربي المركزي، وقادراً، بالتالي، على الانسجام مع محيط يسير نحو التلبنن، بل إن عليه أن يتعلم من لبنان صورة مستقبله.
وسط ذلك يعيش حزب الله كنقيض. ولكنه نقيض لا يمارس دوره الضروري، في نقض البنية القائمة. هل يستطيع؟ كلا. وهذه هي مأساته. صحيح أن اقتلاعه صعب جدا، ولكنه يعيش ويشتغل في بيئة وطنية مضادّة ستحكم عليه، في النهاية، بانكماش دوره السياسي الأساسي. لقد تحسّر حسن نصرالله، مراراً، على ما كان يمكن أن ينتجه، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، انتصار المقاومة على الغزو الإسرائيلي في العام 2006، وذهب هباء جراء غياب الحاضنة الوطنية الشاملة للمقاومة القادرة على ترجمة التضحيات إلى مكاسب في شتى المجالات.
إنها لحسرةٌ في مكانها، ولكنها ستظل في نطاق الحسرة، إذا لم يدرك حزب الله أن دوره الصعب والممكن هو دور عربي وليس لبنانيا. معادلة تنطبق على التيار الوطني الحر الذي فوّت وما يزال يفوّت دوره التاريخي الضروري على مستوى المشرق، حاشراً امكاناته الكبرى في الشؤون اللبنانية الصغرى.
ثاني عشر، يبقى أن نسأل: من أين أتى ويأتي كل هذا الجيش من الليبراليين في بلاد لم تتجذر فيها، ولا توجد في بناها أسس موضوعية لتجذّر الليبرالية؟
هذا الجيش حصلت عليه الثلاثية الأميركية ــــ الخليجية ــــ الإسرائيلية… من اليسار أولا، ومن التيارات القومية ثانيا. غير أن ظاهرة الانتقال من اليسار إلى الليبرالية هي الظاهرة الأساسية، توازيها ظاهرة الانتقال من القومية إلى التأسلم.
تضمنت الأيديولوجية اليسارية العربية، عناصر ليبرالية صريحة. ذلك أن الطروحات اليسارية التقليدية المتعلقة بالتحالف مع البرجوازية الوطنية، وبالتالي، نبذ مطلب الحصول على السلطة بواسطة الثورة أو الانقلاب، حتّمت على اليساري العربي أن يفكّر الطريق الليبرالي للمشاركة السياسية عبر صيغة يسارية من الديموقراطية. وهذه الصيغة لا تتضمن الانتخابات فقط، بل حرية تشكيل النقابات والمنظمات الاجتماعية وحرية الصحافة والتظاهر والاضراب… الخ. إلا أنه في ظل أنظمة قومية شمولية ترجمت، واقعياً، معظم جوانب البرامج الاجتماعية لليساريين في ظل قمع سلطويّ شمولي، ذهب اليساريون للتعبير عن تمايزهم نحو فكرتين، أولهما ــــ بعد هزيمة الجيوش الوطنية في حرب 1967 ــــ فكرة حرب التحرير الشعبية. وهكذا التحق آلاف اليساريين ومنهم العديد من المثقفين، بالصيغة التي جسدت تلك الفكرة واقعياً، أي المقاومة الفلسطينية. وهذه، على بطولاتها، ظلت، من الناحية الاستراتيجية، أسيرة السياسات اللاجمة والرجعية للرعاة الخليجيين، مما عرقل أي إمكانية للتأثير اليساري في المسار العام للمقاومة الفلسطينية، وثانيهما، الفكرة الديموقراطية الليبرالية التي بقيت في السلة بعد هزيمة المنظمات الفلسطينية وخروجها من دائرة الفعل التاريخي في العام 1982. وقد تماهى اليسار مع الأطروحة الديموقراطية الليبرالية في الثمانينيات، حين وجد الخلايجة في أواخر ذلك العقد، أنهم يحتاجون قدرات ثقافية وأيديولوجية يمكنها مواجهة التحدي العراقي، فبدأت الأواصر تنشأ بين الطرفين على نطاق واسع، وبدأ العشرات ثم المئات من الكادرات اليسارية، يتوظفون لدى المبادرة الخليجية أو يتمولون من مراكز الأبحاث والمجتمع المدني في الولايات المتحدة والغرب.
ماذا كان يعني أن تكون يساريا في عراق القطاع العام والمشروع التنموي الوطني والعدالة الاجتماعية في ثمانينيات القرن العشرين؟ كان يعني أن تكون شيعياً ضد الحرب على إيران، أو ديموقراطياً ليبرالياً ضد القمع السلطوي الداخلي، أو كردياً ضد وحدة العراق، أو، لاحقاً، خليجياً ضد غزو الكويت. إنها لمأساة تاريخية بالطبع، انتجت ظاهرتها الخاصة في تحول الكثيرين من اليسار إلى التشيّع أو الليبرالية أو الانفصالية أو الانضواء في المشروع الخليجي. بالنسبة للبعثيين كان مسار الشيعة منهم نحو التشيع بالدرجة الأولى، بينما مسار السنّة منهم نحو التسنّن في عملية بدأت من قلب النظام المهزوم في ما سُمي بالحملة الايمانية، وانتهى في قلب المقاومة، متجسداً في التحالف مع المنظمات السلفية السنية وفرع القاعدة في العراق.
في سورية تأسس اللقاء الليبرالي الاسلامي مبكرا في التحالف الفكري الذي تمّ مبكرا بين العناصر اليسارية المرتبطة بالتنظيمات الفلسطينية والليبرالية اللبنانية ضد التدخل السوري في لبنان في أواسط السبعينيات، ولاحقا بين شيوعيي رياض الترك والإخوان المسلمين في مطلع الثمانينيات. وفي الحالتين، تمثلت المأساة في أن الاعتراض اليساري صبّ في مصلحة العدو من هجمة كامب ديفيد إلى العدوان على لبنان 1982. بالمقابل، كان النظام السوري السلطوي القمعي، ومع كل تلك الالتواءات البراغماتية التي أوجبتها موازين القوى، في الجانب الصحيح من التاريخ. لكن، في التسعين، ارتكب النظام السوري، خطأه الكبير في الانضمام إلى الحلف الأميركي ــــ الخليجي في الحرب على العراق. أسس ذلك الخطأ لقيام النظام الحريري (النيوليبرالي الكمبرادوري السنّي المرتبط بالخليج) في لبنان، لكنه خلق نقيضه المتمثل في المقاومة، وأتاح لها دوراً فاعلاً ضد إسرائيل، إنما على أساس تحييد دورها في الداخل المبني على تفاهم المسلمين في جناحيهما: دولة البزنس المرتبطة بالخليج ودولة المقاومة المرتبطة بإيران، بينما يلعب السوري دور الحَكم. (لا تسل، هنا، عن الفساد الكبير المتولّد موضوعياً من الصيغة نفسها.) وبهذه الصيغة، رغم تناقضاتها، أمكن وقف الحرب الأهلية (على حساب المسيحيين والدولة)، وأمكن تحرير الجنوب، لكن جرى تقويض البلد اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وانغلقت عليه آفاق التغيير التقدمي. وبالنتيجة، بدت الأطروحة الليبرالية كمنقذ وحيد. وهو ما رأيناه، لاحقا، متجسداً في ما سُمي ثورة الأرز العام 2005. وقد بدا، عندها، وهماً، أن الوجود السوري في لبنان هو الذي يعرقل الليبرالية.
بسقوط العراق، العام 2003، لم تعد صيغة التسعينيات السورية هذه ممكنة. فالتالي على جدول الأعمال الإمبريالي هو سورية التي حاولت أن تعرقل ذهابها إلى المقصلة بردود فعل متناقضة؛ من جهة، دعم المقاومة الجزئية في العراق، ولو ارتبطت بالسلفية الجهادية والقاعدة، وتوثيق الصلة مع حزب الله وحماس والمغامرة الكبرى بدعمهما في حربي الـ 2006 والـ 2009، و تطوير القوات المسلحة والصناعات العسكرية، ومن جهة أخرى، محاولة استيعاب الهجوم الغربي الخليجي عن طريق فتح سورية أمام الرأسمال الخليجي والتركي والدولي في مقابل عدم المساس باستقلالها السياسي، واتباع النيوليبرالية الاقتصادية بديلا عن الليبرالية السياسية (وهي التي أصبحت عنواناً لأيديولوجية المثقفين السوريين لمرحلة ما بعد حافظ الأسد)، وكان النظام السوري يأمل أنه يستطيع، بذلك، الحفاظ على رسوخه وخياراته وامتيازات نخبه. هذه المعادلة من مقايضة السياسة بالاقتصاد،كانت الأقرب إلى ذهنية ومصالح الأوساط المقررة في دمشق، لأنها، أي تلك المعادلة، تسمح لأمراء الحزب والنظام الأمني، التحوّل إلى رأسماليين، مستخدمين نفوذهم للشراكة مع الغزاة الاقتصاديين لسورية، ومعززين علاقاتهم الانتهازية مع الخليج وتركيا، وآملين بالتفاهم مع أوروبا ــــ خصوصا فرنسا ــــ والولايات المتحدة.
وماذا إذاً؟
(1) نيوليبرالية متوحشة حطمت التحالف الوطني الاجتماعي الداخلي، (2) وليبرالية اكتسحت الوعي الأيديولوجي الفاعل لدى النخب الثقافية، (3) وتيارات إسلامية ترى نظيرتها تتقدم الحراك الشعبي في تونس ومصر والمغرب وليبيا واليمن، بينما هي تملك القدرة على التحشيد المذهبي وراء القضية السنيّة؛ ثلاثة عناصر اجتمعت في «الثورة السورية» التي حظيت، للتو، بدعم غير مسبوق، سياسياً وإعلامياً ومالياً وتسليحياً واستخباراتياً؛ ذلك أن الذئاب والثعالب كلها تريد تصفية حساباتها مع سورية ودولتها وجيشها ونظامها، وهي وجدت في الجدل الملتبس بين الليبرالية والإسلام السياسي، إطاراً يسعها جميعاً.
أثبت الجيش السوري، رغم كل شيء، أنه منظمة وطنية متجذرة. وهو يخوض، اليوم، حرباً شرسة ومصيرية ضد الإرهاب الدولي المشرّع والمدعوم، غربياً وأميركياً وتركياً وعربياً، لكن الحرب الحقيقية، حيث النصر له مضمون تاريخي حقا، هي الحرب الأيديولوجية التي تواجهها سورية الآن مكثّفة ومصيرية، بين الأيديولوجية الليبرالية الإسلامية المذهبية وتلك القومية اليسارية. الأولى تبلورت في سياق سياسي وثقافي موات، وفي ظل مشروع طويل المدى رعاه البترودولار وإعلامه ومؤسساته، والثانية موجودة موضوعيا في صلب المقاومة السورية للعدوان، وبالقطعة، لكنها لم تتبلور حتى الآن في صيغة ومشروع، سيكون على كل المثقفين القوميين واليساريين في سورية والمشرق، أولئك الذين ما زالوا مخلصين لمبادئ حركة التحرر القومي العربية، وممتنعين عن السقوط في حبائل البترودولار، أن يبنوهما. ويتطلب بناؤهما واقعياً أن يحسم النظام السوري خياراته جذرياً ونهائياً، بحيث يغدو منسجماً مع الدور الجيو سياسي لسورية بوصفها قاعدة التحرر العربي. لقد وصلت البراغماتية إلى الجدار أيها الرفاق. وهذه الحرب مفصلية، فلا تحلموا بالعودة إلى أحضان التضامن العربي واللعب على التناقضات والتفاهمات مع الغرب في الوقت الضائع؛ إما أن تكون سورية قومية علمانية اشتراكية مقاومة مناهضة للإمبريالية والخليج وتركيا وللتحالف الليبرالي الإسلامي، وإما أنها ستخسر الحرب، عاجلاً أم آجلاً.

Posted in Uncategorized.