القصة الكاملة لمؤامرة معلنة

*
حين أعلن الملك عبد الله الثاني، في أول تصريح يدلي به لقناة «الجزيرة» منذ توليه العرش، عن «مؤامرة» تستهدف الشعب الفلسطيني ومستقبله، كان يختار المنبر والخطاب معاً: القناة المنبوذة من المعتدلين، والاصطلاح المطرود من قاموس الاعتدال. أراد الملك أن يصل صوته إلى الشعوب العربية التي استحوذت «الجزيرة» على مجالها الإعلامي، وببضع كلمات مختنقة، كأنها صرخة ختامية في تراجيديا تصدر الآن من القصر ذاته. المؤامرة التي لا يستطيع الملك، لحراجة الموقف، الإعلان عن أطرافها، معروفة والضالعون فيها معروفون. العدوان الإجرامي على غزة هدفه تدمير المقاومة الفلسطينية ــــ وبصورة خاصة «حماس» ــــ وتمهيد الطريق أمام السلطة الفلسطينية للتوقيع على اتفاق يلبي جميع المطالب الإسرائيلية: قضم أكثر من نصف الضفة الغربية وتسمية إدارة المعازل السكانية الفلسطينية، المنقطعة بعضها عن بعض، «دولة»، ليس لها منفذ سوى الاتحاد الكونفدرالي مع الأردن الذي سيكون عليه تحمّل عبء استيعاب اللاجئين الفلسطينيين من كل أماكن لجوئهم، ومنحهم وطناً بديلاً من فلسطين.
ألم يكن هذا المشروع محور النقاش الاستراتيجي الأميركي منذ أكثر من سنة؟ ألم تصبح المفاوضات بين أولمرت وعباس فجأة غامضة، وكواليسها عميقة؟ ألم نكتب الكثير عن الشكوك في أن حلفاً ثلاثياً قد نشأ فعلاً بين تل أبيب ورام الله والقاهرة، وهو الذي نراه اليوم صريحاً في العدوان على غزة من إسرائيل، المعزز بالحصار المصري الخانق على القطاع واستعداد السلطة للعودة إلى حكم الغزيين على صهوات الدبابات الصهيونية أو الدولية؟
ألم تكن هناك وثيقة باسم عوض الله ــــ صائب عريقات؟ ومساعي جماعات البزنس المسيطرة على القرار، في اللحظة الأخيرة، قبل الأزمة المالية العالمية، لبيع ما بقي من الموجودات الوطنية، بما فيها المقرات الجديدة لقيادة الجيش الأردني؟ «المؤامرة»؟ نعم. ولكنها أقدم من حرب الإبادة والتدمير على غزة. فلقد كانت تتبلور وتكبر وتنشئ لها سياقات إقليمية وحزباً داخلياً، قبل أن تطلق الطائرات الإسرائيلية مدافعها على الغزيين في التوقيت المطلوب. وكانت النخبة الوطنية الأردنية، داخل النظام وخارجه، قد كسرت جدار الصمت، منذ ربيع العام الماضي، وكوّنت حلفاً تناسى الخلافات، من أجل صدّ «المؤامرة».
وكان من المنتظر، بعد إقصاء رئيس الديوان السابق (منسق الشبكة الأميركية ــــ الإسرائيلية في الأردن) أن تُقصى الشبكة كلها من كل مواقع المسؤولية، ويُعاد تأليف الحكومة على أسس وطنية، بعدما جرى الشروع في إعادة ترتيب العلاقات مع «حماس» وسوريا وقطر، وصولاً إلى إعادة تركيب المشهد السياسي، الداخلي والخارجي، وفقاً لمقتضيات مواجهة «المؤامرة».
مع بدء العدوان على غزة، تتابعت الأحداث كما هو متوقع، بل بأكثر مما هو متوقع من إدانة العدوان بشدة، وقطع الاتصالات مع تل أبيب، التي منح السفير الأردني لديها إجازة طويلة، ووقف التنسيق مع الدبلوماسية المصرية، في ظل قرار بإطلاق حرية التظاهر والاحتجاج وتنظيم الفعاليات الشعبية والسياسية ضد العدوان، بما في ذلك ضد السفارتين المصرية والإسرائيلية.
لقد أُحرق علم إسرائيل تحت قبة البرلمان، وتبارت الهيئات السياسية والثقافية والأكاديمية في التحفيز على قطع العلاقات مع ما أصبحت الصحافة الأردنية تسميه «العدو الإسرائيلي»، وأعلن الملك مراراً غضبه الشديد من العدوان وهمجيته، مكللاً ذلك بإعلانه عن وجود مؤامرة على فلسطين، وتالياً على الأردن. لكن ما يدعو للحيرة أنه، في الوقت نفسه، جرى الاستغناء عن مهندس المشهد السياسي الجديد، مدير الاستخبارات، الفريق محمد الذهبي، بينما تأجل التعديل الوزاريّ ولم تعد وجهته السياسية معروفة، واحتفظ أعضاء شبكة الوطن البديل، بمن فيهم وزير الخارجية صلاح البشير، بمواقعهم، وظهر أن حملة الإصلاح الوطني قد أُرجئت. متى؟ في عزّ الحاجة إليها. هو، إذاً، فصل غامض جديد من فصول التراجيديا الأردنية.
كتبت مراراً عن الصراع المستحيل بين نظام معتدل حليف للغرب، ومحسوب على تراث اليمين العربي التقليدي الصلب، وبين دولة هي، بحكم جغرافيتها السياسية، محكومة بأن تكون دولة اعتراض ومواجهة للغزو الصهيوني. فهذا الغزو لا يكتمل إلا بشطب الدولة الأردنية، المكان «الواقعي» الوحيد الممكن لشطب القضية الفلسطينية من جدول الأعمال نهائياً.
من هذه الزاوية تحديداً، فإن معاهدة وادي عربة (1994) التي وقعها الملك حسين مع إسحق رابين ليست مجرد استسلام، ولا وثيقة تفريط كما هي الحال بالنسبة لاتفاقيات أوسلو، ولا وثيقة تفاهم على التعايش، كما هي الحال بالنسبة لكامب ديفيد، بل هي ببساطة وثيقة انتحار.
كان الملك حسين على معرفة ممتازة بالغرب، وبالولايات المتحدة تحديداً، وبإسرائيل. وكان ذهنه وقاداً ويتمتع بحس عملي مرهف. فلماذا إذاً، ظل يلهث وراء سلام يعرف أنه مستحيل مع الإسرائيليين الذين حاولوا في حزيران 67 قتله بقصف القصر الملكي بعمان، وواصلوا قصف الجيش الأردني المنسحب داخل الضفة الشرقية، فيما كان واضحاً أنه مسعى شاروني لإحداث تغيير سياسي في الأردن نحو قيام دولة للفلسطينيين على أرضه تستوعب تهجيراً واسع النطاق من فلسطين «موحدة يهودية» تنهي الصراع كله. لماذا الإلحاح على سلام لا يمكن إنجازه، لا من طرف تل أبيب ولا من طرف عمان؟ الملك حسين كان يشتري الوقت.
وبالنظر إلى النتائج، علينا أن نعترف بأن الملك حسين ترك إنجازاً لا يمكن خصخصته، أعني الوطنية الأردنية العصرية المتجذرة بفضل الدولة ودورها الاجتماعي والاقتصادي والتربوي، وأفرزت نخبة منبثة في أجهزة الدولة، المدنية والعسكرية، والصحافة، والجامعات، والمجتمعات المحلية.
بالنسبة لرجل مثل وصفي التل: «المعركة مع إسرائيل قَدَر». ولا مفرّ من القَدر… غير أن التل الذي شدّد على المستوى الأردني الخاص في الصراع مع إسرائيل، انطلاقاً من ضرورة الحرب مع إسرائيل التي تهدّد الهوية الوطنية الأردنية، لم يكن ليسمح ببروز هوية فلسطينية في الأردن، يؤدي جدل نموها الفعليّ إلى ضد المراد منها، أي إلى تحقيق المشروع الإسرائيلي الأثير: الوطن البديل.
على العكس، أو بالموازاة، كان الملك حسين مؤمناً بقدرة حجمه السياسي وعلاقاته الإقليمية والدولية، وحاجة الغرب إلى استقرار نظامه في دولة واقعة على الحد، نصفها شامي ونصفها صحراوي، فيها مجتمع «حديث» نسبياً وحركة قومية ويسارية وجيش محترف على مدخل الحجاز ونجد وآبار البترول!
لكي يدرك الأهمية القصوى لاستقرار نظامه ونجاحه في التفاعل مع مجتمعه المحلي، ويطالب بالبقاء والقوة، كان على الملك حسين أن ينظر إلى الخريطة، حيث الأردن مهيأ للموجات الثورية في سوريا والعراق (والصراع بينهما) واندفاع القبائل المقاتلة صوب النفط، والفلاحين (الأردنيين والفلسطينيين) للقتال ضد إسرائيل.
الخريطة اليوم تقول أكثر من ذلك. فـ«الفوضى» الأردنية لها الآن ثلاث جبهات ممكنة كلها تهدّد المصالح الأميركية في المنطقة: باتجاه العراق، باتجاه السعودية، باتجاه إسرائيل. ولكن الخريطة قد تتفجر كذلك، داخلياً. وليس لدى الأردن اليوم، لا استراتيجية الملك حسين ولا استراتيجية وصفي التل. في الحقيقة، ليس لدى الأردن اليوم أيّة استراتيجية على الإطلاق، ليس لديه الوقت لشرائها ولا الاستعداد للمجابهة. عضويته في المحور الإسرائيلي ــــ المصري ــــ السعودي مستحيلة لأن مشروع هذا المحور يشطبه، ولا هو قادر على الانتقال إلى المحور الآخر، بينما لم يعد الحياد ممكناً.
الردّ الأميركي المتوقع على انفجار بركاني كهذا يقع في قلب المشاريع الأميركية الثلاثة الكبرى، هو بالطبع استثارة الحرب الأهلية بين الأردنيين والفلسطينيين.
لكن هناك في المقابل، عناصر للوحدة تولدت من خلال «حماس» إسلامية الهوية، التي توحّد مقاومتها وخطها الآن مئات آلاف المواطنين الذين لم يهدأوا في ما يشبه الانتفاضة المصرّح بها ضد العدوان الإسرائيلي، وفي كل التجمعات الديموغرافية من أقصى البلد إلى أقصاه.
ولدى الأميركيين أدواتهم أيضاً. وقد بدأت العمل بالفعل. فعلى هامش الفعاليات الشعبية، استعاد تيار الانقسام نشاطه، ممثلاً أولاً بالشبكة الأمنية للسلطة الفلسطينية التي جندت «متظاهرين» يختصمون مع الشعارات الوطنية والحمساوية، ويروّجون هتافات وأفعالاً تضر بالوحدة الوطنية (ومنها مثلاً رفع العلم الفلسطيني على مبنى رئاسة الوزراء في عمان)، وثانياً بالشبكة السياسية والإعلامية والمالية المرتبطة بالدوائر الأميركية داخل النظام وخارجه، التي عادت إلى الظهور شيئاً فشيئاً ولكن بقوة.
وضع الأردن الآن عصيّاً على التنبؤ حوله: شلل سياسي في مواجهة مؤامرة معلنة تستهدف كيان الدولة كله، وفَوَران جماهيريّ لم تتحدد بعد مضامينه السياسية، وإنْ كان قد تجاوز حدود التضامن مع غزة إلى اتجاهات شتى، تحركها تفاعلات عديدة ومتداخلة وصراعات محلية وإقليمية ومشاعر دفينة متضاربة وظلال من الماضي وهواجس على المستقبل… كأن الدولة عربة كانت تسير بسرعة في الطريق الخطأ، ثم توقفت فجأة على الهاوية، يصرخ كل مَن في داخلها على ليلاه، لكنهم جميعاً في العربة. والعربة معلّقة، لا هي قادرة على العودة ولا على التقدم. مصيرها، على المدى القصير، مرتبط ولو بنصف نصر تحققه «حماس»، وعلى المدى الطويل بقدرة حركتها الوطنية على اكتشاف الطريق الصحيح.
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.