*
فشلت «السلطة الفلسطينية» منذ 1993، في أن تكون «نواة دولة». الأسباب الخارجية معروفة، وتتمثل في الاحتلال الإسرائيلي والدعم الأميركي للأطماع الصهيونية، والنفاق الأوروبي، وعدم جدية الدول العربية في استخدام نفوذها للضغط المضاد.
وهناك أيضاً الطابع الملتبس والمراوغ لاتفاقيات أوسلو التي حوّلت مناطق حدود الـ67 من كونها «أراضيَ محتلة» إلى كونها «أراضيَ متنازعاً عليها»، وأخضعتها لخطوات حل جزئية متباعدة وإشكالية، يحتاج كل منها إلى اتفاق خاص ومفاوضات وتفاصيل وإجراءات…
لكن هناك أسباباً داخلية أراها أعمق لفشل النخبة الفلسطينية في تأسيس نواة دولتها، وهي الآتية:
ــ أولاً: عجز القوى الآتية من خارج فلسطين إليها عن إدراك تكوّن وطنية فلسطينية محلية، لها خصوصيتها وتطلعاتها وتعوّدها على أساليب إدارية وأنشطة كثيفة للمجتمع المدني، وخصوصاً الضفاوي الذي ازدهر في سياق المقاومة الجماهيرية للاحتلال قبل «أوسلو»، وتجلّى في أعلى صوره في الانتفاضة الأولى. لم تبنِ «السلطة» على ما أنجزه المجتمع الفلسطيني من تقدم في الوعي الاجتماعي والإدارة الديموقراطية الذاتية والمشاركة السياسية الكثيفة للفئات الاجتماعية المختلفة، وخصوصاً الشباب والنساء، ولكنها فرضت، بالقوة والرشى، أنموذجاً سلطوياً فظاً يصادر العمل السياسي ويحتكره، في أسوأ تقليد ينسخ أسوأ التجارب العربية.
ــ ثانياً: باستبعاد المجتمع المحلي عن السياسة كعملية للبناء الوطني، تراجعت المشاركة الجماهيرية في فترة ازدهار «السلطة» بين 1993 و2000، تراجعاً جذرياً، وتحوّل الاهتمام العام إلى «البزنس» وتلبية المصالح الفئوية والخاصة، بينما تحوّلت الانتفاضة الثانية إلى انتفاضة أقلية من المقاتلين والاستشهاديين المرتبطين بالفصائل وأجندتها السياسية.
ــ ثالثاً: العقلية الفصائلية التي أدت إلى أردأ أشكال المحاصصة في توزيع الصلاحيات والمناصب، من دون النظر في الكفاءة أو دور القيادات المحلية، أو الإفادة من الخلايا الاجتماعية الفاعلة لتأسيس نمط جديد من التنمية، ليس فقط في مواجهة الاحتلال وتحقيق الاستقلال الاقتصادي عنه وعن المعونات، بل أيضاً لإعادة ربط الوطنية الفلسطينية، السابحة في الإعلاميات والأدبيات والمكاتب والنشاط الفصائلي والدبلوماسي، بالنشاطات الإنتاجية.
ــ رابعاً: بالعكس، جرى تضخيم الإدارات والأجهزة الأمنية بصورة سرطانية، مما حوّل مجتمع الضفة والقطاع من مجتمع مزارعين وعمال وناشطين وتجار وحرفيين، إلى مجتمع موظفين لا يستطيع العيش من دون إعالة خارجية.
ــ خامساً: اختلاط السياسة بالبزنس على كل المستويات، واستخدام النفوذ للحصول على مكاسب ورشى، بحيث صُنّفت «السلطة» في الصحافة العالمية بوصفها «مافيا».
ــ سادساً: وفي كواليس هذه «المافيا» نشأت علاقات متشعبة، مصلحية وشخصية وسياسية وأمنية، بين تيارات في الأجهزة الإدارية والأمنية في «السلطة»، والأميركيّين والأوروبيين والإسرائيليين، ما أدى إلى إضعاف القرار الفلسطيني المستقل، ووضع ذلك القرار في أيدي الأميركيين والإسرائيليين. ونشير هنا فقط إلى الغموض الذي يكتنف مفاوضات الرف بين السلطة والإسرائيليين، وخلق الأوهام التي ما ينفك قادة إسرائيل يبدّدونها علناً، قولاً وفعلاً (المستوطنات)، مثلما نشير كمثال إلى تجاهل «السلطة» لقرار محكمة العدل الدولية في لاهاي، الذي قضى بأن الجدار الإسرائيلي الاستيطاني غير قانوني وأعاد توصيف أراضي الـ67 أراضيَ محتلة. «السلطة» لم تتابع هذا القرار التاريخي، ولم تحشد له على أي مستوى، ولم ترى تطبيقه مطلباً.
ــ سابعاً: كل ذلك لم يمنع «السلطة» من اللعب بدماء الفلسطينيين، عبر تنظيم العنف المسلح وتشجيعه وممارسته لأغراض سياسية داخلية تنافسية، لا في إطار استراتيجية مقاومة. فبينما قاومت «حماس» الهيمنة الفتحاوية بعمليات استشهادية في التسعينيات، دخلت فتح على خط العمل المسلح لمنافسة «حماس» في الانتفاضة الثانية، في إطار سياسة مزدوجة كلّفت الشعب الفلسطيني الكثير من التضحيات، بلا جدوى.
ــ تاسعاً: التورط على مستوى القيادات بالضلوع في خطط وأفكار خارج الثوابت الوطنية الفلسطينية. وآخر الأمثلة على ذلك وثيقة «الدولة المؤقتة والخيار الأردني» التي تفاهم عليها كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات ورئيس الديوان الملكي الأردني باسم عوض الله. وافتضاح هذه الوثيقة أدى إلى توتير العلاقات بين الشعبين الأردني والفلسطيني، بلا طائل.
ــ عاشراً: كل الأمراض السابقة أدّت إلى التصالح الواقعي مع مراكز القوى الفعلية القائمة في الضفة وغزة، سواء مع نفوذ العائلات أو مع نفوذ المتعاونين مع الاحتلال أو مع نفوذ الكمبرادور.
ــ حادي عشر: لم تتحول «السلطة» وحكوماتها إلى أفق دولتي لكل الفلسطينيين. وقد تكرّست بذلك لدى فلسطينيي المنافي قناعة مزدوجة بأن «السلطة» قد أسقطت، بالممارسة، حق العودة إلى أراضي الـ48 من أجندتها، وثانياً بأن الدويلة الممكنة ستظل عاجزة عن توفير الجغرافيا وسبل الحياة والكرامة والحرية للعائدين. ونتج من ذلك انفصال بين فلسطينيي المنافي، وخصوصاً أولئك الذين يتمتعون بحقوق المواطنة والحياة اللائقة، كما في الأردن مثلاً، وبين الحركة الوطنية الفلسطينية.
ــ ثاني عشر: وحين أدت هذه الأوضاع مجتمعة إلى نجاح حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية وخسرت «فتح» أغلبيتها البرلمانية وحكومتها، أصبح الهدف الاستراتيجي «للسلطة» هو التحضير لانقلاب على شرعية الانتخابات، وضرب «حماس» وتهميشها. وقد ردت «حماس» بانقلاب في غزة، بينما حافظت على نفوذها في الضفة. وتبلور استقطاب حاد في الحياة السياسية الفلسطينية يستثني كل صوت ثالث بين الفريقين الرئيسيين اللذين مارسا وسائل قمعية غير مسبوقة ضد بعضهما بعضاً، وكرّسا واقعياً الانفصال الجغرا ـــ سياسي بين الضفة وغزة. وهو ما يفتح الباب أمام تصفية القضية الفلسطينية، واستنزاف الطاقات الفلسطينية، واستبعاد المزيد من الفعاليات الاجتماعية الفلسطينية عن النشاط السياسي.
ــ ثالث عشر: شلل الفكر السياسي الفلسطيني عن تصوّر بديل تاريخي عن سقوط مشروع الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع.
أطروحة الدولة الواحدة التي تبدو لي المخرج الوحيد من الفشل الفلسطيني، تصطدم بالمصالح العيانية لنخب «السلطة» و«حماس» معاً. فمن الواضح أن إعادة توحيد فلسطين تمر باستقالة «السلطة» والحكومة الحماسية معاً، ومواجهة الاحتلال من موقع كفاحي، لا سلطوي، نحو فرض الدولة الواحدة. وهي عملية سوف تفرز قيادات جديدة للشعب الفلسطيني.
* كاتب وصحافي أردني
العوامل الداخليّة للفشل الـفلسطيني
Posted in Uncategorized.