العراق: تعريب المعركة ضد الحصار***مع دعوة الرئيس العراقي صدام حسين، الثلاثاء، الجماهير العربية الى إسقاط أنظمتها، أصبح التكتيك العراقي، بعد حرب الساعات ال70، واضحا، ولعله يندرج تحت هذا العنوان الرئيسي: تعريب المعركة ضد الحصار.لقد صعدت بغداد، منذ السادس عشر من كانون الاول الماضي، موقفها تباعا: لم تعرض على الاميركيين والبريطانيين، تسوية من أجل وقف القصف الاكثر قسوة منذ »عاصفة الصحراء« العام 1991. وينبغي الاعتراف أنها، على العكس، تحملته بصلابة، لتعلن ان لجنة الأمم المتحدة لنزع الاسلحة العراقية »الاونوسكوم«، قد ماتت، وأنها لن تسمح، بعد، للمفتشين الدوليين، تحت اي ترتيب آخر، بممارسة مهامهم في العراق، قبل رفع الحصار نهائيا، مقفلة بذلك الباب أمام الوساطة الفرنسية التي اقترحت ترتيبات جديدة للتفتيش عن الاسلحة العراقية تترافق مع فك جزئي للحصار، بل ووصف نائب رئيس الوزراء العراقي، طارق عزيز، موقف الرئيس الفرنسي جاك شيراك هذا، بأنه، »انتهازي ولئيم«.وفي خطوة تالية، سحبت بغداد قبولها الواقعي بمنطقتي حظر الطيران العراقي شمال البلاد وجنوبها، وأخذت المضادات الأرضية العراقية تتصدى للدوريات الجوية الاميركية والبريطانية في هاتين المنطقتين، قبل ان تبدأ المقاتلات العراقية، الثلاثاء، باعتراض تلك الدوريات، فيما بدا انه قرار بتحقيق إنجاز عسكري، بأي ثمن.وقد سمح هذا التصعيد ضد الولايات المتحدة وبريطانيا، للعراقيين، بالتصعيد عربيا. وهذا هو الميدان الذي يستهدفونه. فشنّ المسؤولون العراقيون والاعلام العراقي، حملات ساخنة غير مسبوقة ضد الرئيس المصري حسني مبارك وولي العهد الاردني، الامير حسن، عدا عن الكويت والسعودية والأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي خرق، حسب بغداد، أصول العمل العربي المشترك، ووافق على »تأجيل« اجتماع وزراء الخارجية العرب حول القمة العربية من أجل العراق، ليس الى ما بعد رمضان فحسب، بل ربما الى أجل غير مسمّى، استجابة للضغط السعودي الكويتي.يئست بغداد، على الأرجح، من تحقيق إنجاز جدي جراء سياسة المصالحة مع »النظام العربي«، فاهتبلت فرصة الظروف الناشئة عن حرب الساعات ال70، لكي تبدأ بمخاطبة »الجماهير العربية«. واذا كانت بنية النظام العراقي الطبقية والسياسية وتاريخه، لا يسمحان له بإطلاق »ناصرية جديدة« عداك عن القطيعة مع النظام العربي واعتماد الخيار الجماهيري النضالي، فلا بد للمراقب المحايد ان يلاحظ ما يلي:أولا مع الاقرار بالطابع الاستبدادي الدموي للنظام العراقي، وكونه، في النهاية، نظام امتيازات طبقية وفئوية، فليس هنالك إجماع، في صفوف الجماهير العربية، على تخطيء سياساته سواء نحو إيران او نحو الكويت، بالاضافة الى ان محاولته بناء ترسانة من الاسلحة غير التقليدية هي محاولة ضرورية قوميا في مواجهة الترسانة الاسرائيلية. وهي، على كل حال، محاولة حظيت وتحظى بتعاطف غير محدود من الجماهير العربية.ثانيا ومع الاعتراف، جدلا، بكل الانتقادات الموجهة الى النظام العراقي، فانه يدافع، منذ العام 1991، عن قضية وطنية وقومية عادلة، هي قضية رفع الحصار عن العراق والحفاظ على سيادته ووحدة أراضيه. وهذه الحقيقة هي التي تشلّ، موضوعيا، مبادرات القوى الوطنية والقومية والديموقراطية في المعارضة العراقية، بينما تتماهى الاتجاهات المتأمركة فيها مع المعتدين، وتشوّه سمعة تلك المعارضة ككل، وتعزلها عراقيا وعربيا.ثالثا ان إسقاط النظام العراقي، في ظل موازين القوى الراهنة، عراقيا واقليميا ودوليا، لن يكون في مصلحة القوى الوطنية والقومية والديموقراطية العراقية، بل في مصلحة القوى العميلة للولايات المتحدة والقوى الطائفية. وهذه لن تنشئ نظاما أقل استبدادية ودموية من نظام الرئيس صدام حسين، عداك عن أنها ستفتقد ميوله العروبية والتنموية والعلمانية، وستُخضع البلاد، كليا، للسيطرة الاميركية على نحو أسوأ مما هو عليه الحال في البلدان الخليجية. وأكثر من ذلك، سيكون واهما من يعتقد بأن نظاما جديدا في العراق سيكون حرا من ترتيبات »التفتيش«، والهيمنة على النفط وموارده، والتعويضات، وجدولة قاسية للديون الخارجية، تضع الاقتصاد والمجتمع العراقيين تحت الادارة المباشرة لصندوق النقد الدولي، فلا تخنق تطور العراق فحسب، بل وتضع جماهيره في شروط إفقار وتجويع أسوأ من شروط برنامج »النفط مقابل الغذاء«.من كل ذلك نستنتج ان الهجوم الرسمي العربي والمعارض العراقي، على نظام الرئيس صدام حسين، ليس له ولن يكون له، في المدى المنظور، صدى في الشارعين العراقي او العربي، بينما القضية العراقية الرئيسية التي يدافع عنها هذا النظام، وهي قضية رفع الحصار عن العراق وسيادته ووحدة أراضيه، تحظى بدعم الجماهير العراقية والعربية. واذا ما نجح النظام العراقي في إدامة مقاومته للولايات المتحدة، مهما كانت الكفاءة الميدانية لهذه المقاومة، فان خطابه السياسي سيجد له صدى في الوطن العربي، لا سيما وان المشروع الاميركي »للسلام« العربي الاسرائيلي، يصطدم بالبنية السياسية الاسرائيلية غير القادرة على التفاعل مع استحقاقات هذا المشروع.النظام العراقي انتقل، إذن، الى »الهجوم«. وهو يرد على سبع سنوات من تهميشه عربيا، بفرض نفسه على الأجندة العربية بوساطة تكتيك فعال: مقاومة الاميركيين ومخاطبة الجماهير العربية، ودعوتها الى التحرك ضد الأنظمة التابعة لأميركا. فهل لدى بغداد العزم الكافي لتحويل هذا التكتيك الى استراتيجية؟ان الاجابة على هذا السؤال صعبة. فالنظام العراقي عوّدنا، في الماضي، على التقدم والتراجع في إطار تكتيكي مفرّغ. ولكن، بالمقابل، فان الآفاق المفتوحة، اليوم، موضوعيا، أمام الهجوم العراقي، نفسه، في المجال، أمام استمراره وتصعيده. وعلى كل حال، ليس لدى النظام العراقي ما يخسره، بعدما اتخذت الولايات المتحدة قرارا نهائيا بالعمل على إسقاطه. واذا كان تجديد القصف الجوي والصاروخي احتمالا واردا، فمن شأنه ان يعزز الموقع السياسي العراقي، لا العكس، طالما كان التدخل العسكري البري المباشر ليس خيارا أميركيا، بينما التدخل غير المباشر، بوساطة أطراف معارضة او اقليمية، ليس متاحا من الناحية السياسية، وليس حاسما من الناحية العسكرية.ان التحدي الذي يواجهه النظام العراقي، الآن، هو قدرته على إجراء مصالحة حقيقية مع القوى الوطنية والقومية والديموقراطية في المعارضة العراقية والمجتمع العراقي، وهي مصالحة تمثل شرطا ضروريا لتمكين العراق من مواجهة الأخطار الكبرى التي تستهدف سيادته ووحدته وثرواته ومستقبله.