*
من السذاجة الاعتقاد أنّ المشروع الأميركي في العراق قد تجاوز فشله. فذلك الفشل ليس ناجماً بالأساس عن مشكلة أمنية، بل عن الاستحالة التركيبية لتحويل العراق إلى مستعمرة. وهي استحالة قائمة سواء تمّ تمرير الاتفاقية الأمنية مع الغزاة أم لا.
هناك بالطبع هدنة في الميدان ناجمة عن الإنهاك. فالشعب العراقي يقاتل وحده منذ خمس سنوات، من دون نصير ـــ بل على رغم جملة من التدخلات الإقليمية المعادية ـــ ومن دون اعتراف عربي أو دولي بشرعية مقاومته.
لكنّ الجوهري أنّنا أمام مرحلة مراجعة عراقية للموقف كله. وهي مرحلة إعادة حسابات تتطلب التهدئة وتغيير الاصطفافات. وسنركّز هنا على محور رئيسي هو مصير السلفية التي بدا أنها تتحكم في العراق منذ 2003، وتحوّل مجتمعه المدني، العلماني تاريخياً، إلى مجتمع سلفي متشدّد يمثّل امتداداً للوهّابية السعودية وولاية الفقيه الإيرانية.
حاكم العراق، بغضّ النظر عن طائفته أو استقلاليته أو مواقفه السياسية هو في النهاية، حاكم العراق بثرواته وإمكاناته المجتمعية الضخمة وكادراته العصرية في كل المجالات، وتراثه السياسي والثقافي العميق. وهو بالتالي ليس مضطراً، من كل النواحي، إلى التبعية لإيران.
وربّما وقعت إيران في الوهم نفسه الذي وقع فيه العرب، وهو وهمٌ ـــ لطائفيته البالغة السذاجة ــ رأى أن الارتباط المذهبي أقوى من الوقائع المادية. لكن العراق لا يحتاج إلى إيران أبداً، حتى في هذا الباب. بل العكس هو الممكن، من حيث قدرة التشيع العراقي ــ الأصل على ابتلاع التشيع الإيراني الفرع.
وهذه الحقيقة تقع في صلب الخطة الأميركية القديمة ــ الجديدة، لبلورة كتلة شيعية عراقية يمينية، متحالفة مع الولايات المتحدة، تضبط البنية العراقية، وتعيد مركز الثقل الشيعي من قم إلى النجف. وهو ما يسمح أيضاً بقيادة انشقاق شيعي يميني متأمرك داخل إيران نفسها.
القوة الإيرانية لا تعادلها في المنطقة سوى القوة العراقية. وبالاستناد إلى سلطوية داخلية شرسة وحضور أميركي دائم، ترى المجموعة الحاكمة في العراق الآن أنه يمكنها أن تؤدّي دور الشرطي في الخليج، وتحتل موقعاً قيادياً في النظام العربي. ويتصرّف ممثل هذه المجموعة، رئيس الوزراء نوري المالكي، مقلداً، بصورة كاريكاتورية الرئيس الراحل صدام حسين. وإذا سارت العملية السياسية الجديدة بالمثابرة نفسها، فإن العراق لا إسرائيل، هو مَن سيخوض الحرب المقبلة على إيران، وهو الذي سيشتبك مع سوريا، وينافسها في لبنان.
وهذا الأفق، إذا بدا ممكناً، سوف يساعد المحافظين الجدد على الحصول على البيت البيض لولاية ثالثة، بل إنه سيغري الديموقراطيين بالبقاء في العراق، وحتى بتبنّي خطة المحافظين الجدد لحلّ القضية الفلسطينية في وطن بديل تحت سيطرة اتفاقية أمنية مشابهة، بحيث يتصل القاطع الأميركي الاستراتيجي: بغداد ــ عمان ــ حيفا.
مصر وإيران وسوريا والأردن هي الدول المتضررة من تطوّر كهذه. فمصر سوف تفقد، نهائياً، دورها لمصلحة العراق الأميركي. أما إيران، فسوف تقع في أتون حرب تمثّّل خطراً على وحدتها وإنجازاتها. بينما سوريا سوف تحاصَر، ويخسر الأردن كيانه.
أما السعودية ودول الخليج، فيمكنها التكيّف، من أسفل، مع الشرطي الإقليمي الجديد، وقد تقبل هذه المرة بقرار عراقي ــ أميركي لضمّ الكويت بالقوة.
هذا التصوّر الذي يسيطر على النظام العراقي الحالي يضع جانباً كل الترّهات المتراكمة بشأن أولوية الارتباط المذهبي على مادية الحقائق الاجتماعية والجيو ــ سياسية والاعتبارات والمصالح المرتبطة بها. فهذه الأخيرة، لا الاعتبارات المذهبية، هي التي تقرّر في النهاية السياسات.
في مقابل الكتلة الشيعية اليمينية المتأمركة، تمثّل الحركة الصدريّة، التيار الأوسع لنزعة المقاومة. وهي تضم فئات متعددة، منها جماعات رفضت الرضوخ لقرارات مقتدى الصدر المتردّد ــ وواصلت الكفاح المسلَّح، ما أجبر الرجل على إعلان إنشاء منظمة مقاومة مسلحة سرية موكلة بقتال الغزاة، وتتألف من عناصر مخوّلين، بينما يلتفت عناصر «جيش المهدي» الآخرين إلى العمل الاجتماعي والثقافي.
ولا نعرف إلامَ ستؤول هذه التجربة، وهل سوف تستقطب تأييداً مخلصاً ومفتوحاً من التيار الإيراني المعادي للولايات المتحدة أم لا. لكن ما يهمّنا هنا هو دلالة هذا التطوّر من حيث تراجع أولوية الالتزام بالولاء للرمز الديني، مقتدى، لمصلحة أولوية المقاومة التي تحفّزها نزعات اجتماعية ووطنية.
كذلك، فإنّ اعتراف مقتدى بهذه الحقيقة هو اعتراف بمحدودية سلطته الدينية على قوى المقاومة من جهة، ورعبه، كسلفي، من عودة العراقيين إلى العلمانية، ما يستوجب الكفّ عن التذابح المذهبي مع السلفية السنية، والالتفات إلى تكريس السلفية، وتدارك سلطتها الآفلة في صفوف الشيعة، من خلال التأكيد على أولوية العمل الدعوي على العمل المقاوم. وهو ما يكشف أولويات السلفيين اللاوطنية.
غير أنّ التيار الأخطر الصاعد في جنوب العراق هو التيار المهدوي. وأتباع هذا التيار، المؤمنون بعودة المهدي القريبة، يمثّلون تحدياً جوهرياً للمرجعية الشيعية. فاقتراب ظهور المهدي يبطل المرجعيات في العراق، كما يبطل ولاية الفقيه في إيران. وهو مثال شديد الدلالة على مكر التاريخ، حيث تقوم حركات دينية لاعقلانية بمواجهة شرسة مع البنى الدينية المعقلنة المهيمنة، فتهدمها، وتهدم في الوقت ذاته نفسها. ذلك أنّه بعد تحطيم شرعية المرجعيات والفقهاء، لن يظهر المهدي إلا على صورة ثورة مدنية.
في المناطق الغربية من العراق، حيث انطلقت المقاومة البعثية ثمّ الإسلامية السنية، استُنزفت الحاضنة الاجتماعية للعمل المقاوم، ليس فقط على أيدي الغزاة الأميركيين ــ على رغم جرائمهم الوحشية ضد العراقيين ــ لكن بالأساس على أيدي عصابات «القاعدة» التي كانت أفضل حليف ممكن للغزاة، من حيث إنها أطلقت التذابح المذهبي، وأرهقت المجتمع المحلي بسلطوية استبدادية رجعية أدّت قسوتها إلى انزياح في الحاضنة الاجتماعية للمقاومة السنية إلى مهادنة الغزاة. وهو ما مكّن القوات الحكومية ــ الأميركية من توجيه ضربات قوية «للقاعديّين» عندما انتهت مهمتهم المطلوبة.
ومن أبرز التطورات العراقية، أنّ منظمات المقاومة التي خاضت الحرب لمدة خمس سنوات، تحت شعارات إسلامية، تتجه الآن إلى العمل على بلورة صيغة سياسية علمانية، بحيث تستطيع تجاوز الطائفية واجتذاب القوى القومية واليسارية المعادية للاحتلال. وهذه المنظمات المؤتلفة في «جبهة الجهاد والتغيير» هي: «كتائب ثورة العشرين» و«جيش الراشدين» و«جند الإسلام» و«جيش المسلمين» و«كتائب التمكين» و«سرايا الدعوة والرباط» و«جند الرحمن» و«الحركة الإسلامية لمجاهدي العراق» و«كتائب محمد الفاتح»، أي عملياً، القسم الأكبر من فعاليات المقاومة العراقية. وتريد هذه المنظمات ليس فقط إزالة الطابع الطائفي عنها، وإنما أيضاً إزالة الطابع الديني عن صورتها وبرامجها وبنيتها وأدائها. وهي لا تفعل ذلك فقط تحت ضغط المجتمع الذي أصبح، بسبب فظائع «القاعدة»، ينفر من الخلط بين السياسة والدين، ويفضل العودة إلى جذوره العلمانية، ولكن، أيضاً، بسبب التأكيد على تأسيس مقاومة وطنية هي غير ممكنة في العراق المتعدد الأديان والمذاهب من دون العلمانية، هذا أولاً. وبسبب الحاجة ثانياً إلى كادرات سياسية وثقافية وتكنوقراطية لبلورة مشروع سياسي بديل عن المشروع الأميركي، حسب تصريحات لقيادات في «جبهة الجهاد والتغيير». وهذه الكادرات ليست متوافرة إلا في صفوف العلمانيين.
بمعنى آخر، يمكننا أن نلاحظ أن المقاومة، بعد خمس سنوات من القتال في ظل برنامج ديني طائفي، أدركت أن إعادة توحيد البلد وتحريره ليست مسألة سلاح فقط وإنما، بالأساس، مسألة القيادة التي لا مفر من تسليمها إلى العناصر الوطنية من النخبة العلمانية.
المجتمع العراقي بالأصل مدني وعلماني. وهو الذي شقّ الإسلام في صدره على أساس اجتماعي، في تمرّدات وصراعات وثورات طبعت الحقبتين الأموية والعباسية بطابعها، ثم منح العراق الإسلام سجالاته الفكرية الكبرى، وعرّقه، أي فرض عليه الانسجام مع الحياة المدنية، وشاهدُنا على ذلك بغداد العباسية الأولى المزدهرة بمجتمعها الحضاري وتقاليدها الثقافية وتنوّعها التكويني، والضاجّة بمتع الحياة والحانات والشعر والغناء وحياة الليل والمجون الفلسفي، أي المجون كرؤية للحياة.
وقد أنتج هذا المجتمع، كإطار إسلامي لسلوكه الواقعي، الفقه الحنفي الذي بلغ أقصى حدود التساهل، قبل أن تصل الحركات الثورية، كالإسماعيلية حدّ إلغاء الشرع ذاته.
المجتمع العراقي اليوم، كمن يستعيد ذاكرته التاريخية الأولى في التمرد والثورة، كما في نمط الحياة المدني، بعد سنوات من ضيق الحياة في ظلّ نظام استبدادي محاصَر، تلته سلفية شرسة سيطرت على حياة العراقيين لخمس سنوات، وأغرقت مقاومتهم البطولية في التقاتل المذهبي والقسوة والتخلف الفكري والحياتي، وأثقلت عيشهم بقيود السلفية الغليظة.
يبحث العراقيون، اليوم، عن إطار سياسي جديد يرسّخ وحدة البلاد وتقاليدها الحضارية، ويزاوج ما بين العلمانية والمقاومة، ويتصوّر عراقاً حراً مدنياً. وهذا الإطار يمكن استنهاضه انطلاقاً من تقاليد اليسار العراقي فحسب. لذلك فهو يواجه اليوم مهمة تصعيد وتظهير الانشقاق بين اليسار المنضوي تحت لواء الغزو والمحاصصة المذهبية، وبين اليسار الوطني المخلص لتراثه المعادي للإمبريالية. ومحور ذلك الانشقاق الضروري هو تأسيس مركز يساري للمقاومة المسلحة.
* كاتب وصحافي أردني
العراق: انتصار المجتمع على السلفيّة
Posted in Uncategorized.