العرب اليوم
ناهض حتّر
“ليت الوقوف…
بوادي السير…
اجباري”
قالها الفتى الاسمر المفتول العضلات منغماً صوته، وكاسراً ايقاع خرير المياه المتدفق في الوادي. تصده الصخور… واحياناً بصعيبة ترشق الصبية المتدافعين المتضاحكين بين الاشجار والمزروعات الصيفية. والفتى واقف بيننا، غير آبه لشيطناتنا الملكف بمراقبتها من مدير المدرسة كان يراقب، بالاحرى، بنات الرحلة المدرسية في الجانب الاخر، ولهن ينغم صوته بمقاطع شعرية.
بدا لي المشهد كله منسجماً وأخاذاً. بالطبع. “ليت الوقوف بوادي السير اجباري” للصحبة للماء والخضرة وللنسمات العليلة، لبهجة الحياة الشابة الآتية… للنساء حتماً للنساء اللواتي يحركن الدماء والآمال الغامضة، اي نبع من المحبات فجره وجد الفتى في داخلي… انا الذي لم ينه ١١سنة على هذه الارض، اراها آراهن أرى بقلب يتحرق الى لحظة شكر يتوحد فيها المكان والزمان والعواطف والرغبات -الانسان.
سالت الفتى.
– من اين تأتي بهذا الكلام؟
لم ينهرني-كما خفت بل قال – من دون اكتراث بي
-وبينما كان يواصل التغازل مع فتياته:
-من “عرار”… أبو وصفي!
***
مذ ذاك، مرت علي ثلاثون سنة واكثر قرأت، خلالها ابا وصفي مراراً، قرأته متعة وقرأته دراسة وتوصلت بصدده الى افكار ورؤى وتقديمات، فكرية وسياسية وفنية غير ان تلك اللحظة من الانسجام الصوفي بين المكان والانسان والكلمة، في “وادي السير” سنة ٧١ لم تفارقني، وظلت تزودني بالفهم الاكثر اقتراباً مع روح “عرار”… بل قل بذكرى ذلك الوصال مع روحه، وفي لحظة تماثل تلك اللحظات التي عاشها، وكتبها… شعراً.
***
لم تعد ثمة مياه في الوادي.
ولم يعد ثمة فتيان يرتلون الشعر غزلاً بصبايا خجولات. ولم يعد ثمة عشاق ولا متمردون…
ولا مجانين ضد واقع يستلبنا حتى الاعماق، ويحول حياتنا الى قش في قش. كلنا مذعنون كالقطيع!
وابو وصفي نفسه، انسحب من حياة الاردنيين واختبأ في رسائل الدكتوراه والمجلدات، ساخراً:
يا شيخ ما العلم؟ حسب المرء معرفة
ان الشفاه بوادي السير… لمياء
ورحلت الى الصمت. صرخته.
لا تحسب الجرح فيمن لا يضج اسى
يا “كوكس” مندملاً… فالضيم ذكاء وقوة الضعف ان جاشت مراجلها
تنمرت نعجة واستأسدت شاء.