الجماهير الأردنية، كعادتها، كانت السباقة الى التضامن مع العراق. فلم تمض ساعات على الغارات الأميركية البريطانية البربرية على عاصمة الرشيد، حتى كان الشارع الاردني، منذ صباح الخميس 17/12/1998، يغلي باللقاءات والاجتماعات والتظاهرات المكبوحة.وينبغي ان نتذكر، هنا، الشجاعة المطلوبة لتنظيم هذه الاحتجاجات، حيث النشاطات الجماهيرية ممنوعة، وحيث الرصاص جاهز، والمعتقلات بالانتظار…. وفي شباط الماضي، حين كان العراق مهددا بعدوان أميركي تأجل، انفردت »المعاقل العشائرية في جنوب الأردن« على حد تعبير وكالات الانباء برفع صوتها، وأضاءت ليل الوطن العربي الصامت المغرق بالسواد، بمظاهرات الاحتجاج التي سقط ضحيتها شهيد في مدينة معان، وجرحى، ومئات المعتقلين، بينما أطبق الحصار على صدر معان شهرا كاملا، وتم تفتيش أحيائها، بيتا بيتا، بحثا عن سلاح الشعب، في عملية موازية، رمزيا، للتفتيش الاستعماري عن سلاح العراق. فكأنما أراد المحاصرون لمعان ان تعيش الآلام نفسها: لا غذاء ولا دواء ولا حليب للأطفال، ولا حركة الا بتصريح!ومع ذلك، ومع ان »الذكرى« قريبة، لم ترعو الجماهير الاردنية عن تقاليدها في الانتصار للحليف العراقي: أحزاب المعارضة، النقابات، الطلاب، النساء، العشائر، الأدباء والكتّاب، والكل، في حركة متصلة، طوال نهارات الخميس والجمعة والسبت، وسط احتياطات امنية مشددة، تكاد تُطبق على الأنفاس، و، رجاء من وزير الداخلية، لقادة المعارضة، »بتقدير الظروف«… حين جاءت الاخبار من دمشق: مئات الآلاف في الشوارع، هتافات الخمسينات تدوي. أغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة.. والأغاني العراقية. و»العدوان على العراق عدوان على سوريا«. المتظاهرون يقتحمون المقرات الدبلوماسية الاميركية والبريطانية، وأياد لا ترتجف، تهوي بالعلم الاميركي من على سارية السفارة، يمزّق ويُحرق.في اليوم التالي في عمان، في قلب عمان، يتجمع الغضب الشعبي في مظاهرة كبرى، الاجراءات الامنية تتراجع. الجماهير تتقدم، وتكسر الحظر على إرادتها الحرة: كان صدى الزحف الآتي من قلب العروبة النابض، مدويا في عاصمة الأردن. وعندما تتظاهر دمشق، من ذا يستطيع ان يمنع عمّان من التظاهر؟السبت في دمشق،الأحد في عمان.أهذه صحوة المشرق أم لمعة عابرة في صدأ اليأس؟في اجتماع البرلمان الأردني، ليل الأحد، مداخلات عنيفة تندد بالولايات المتحدة وبريطانيا، مطالبات بطرد سفيري الدولتين المعاديتين. وفي النهاية، قرار متأخر، ولكنه جاء أخيرا، وبالاجماع: وقف الالتزام الأردني بالعقوبات الدولية المفروضة على العراق.ليست قرارات البرلمان الاردني »ملزمة« للحكومة. ولكن، لننتبه ان هذا البرلمان مكتظ »بالموالين«، فماذا يعني، إذن، اجماع اعضائه من اليساريين والإسلاميين والقوميين الى المستقلين والعشائريين الى الحكوميين، على هذا القرار الجريء الذي طالما طالبت المعارضة الاردنية به منذ 1991؟لقد فرض الشارع، منطقه على المجلس النيابي، و»ألزمه« التعبير عن اجماع الشعب او، ربما أخجله (البرلمان) قرار مشابه سبقه إليه الدوما الروسي، او ربما هو العقل الجمعي الاردني يذود عن نفسه، أخيرا، الحصار المفروض عليه، منذ ان كان الحصار على العراق.لقد قال رئيس الوزراء الاردني، فايز الطراونة، عن حق، ان »الأردن محاصر أيضا«. وتلك مفارقة سياسية عجيبة: فالأردن، المحسوب حليفا رسميا للولايات المتحدة وصديقا حميما لإسرائيل، يخضع لضغوط ورقابة اميركية بريطانية مشددة، لضمان التزامه الكامل بالعقوبات على العراق، تلك التي تكلفه بين نصف مليار ومليار دولار، تشكّل ثلث موازنته العامة(!) لم تغط »التعويضات« الاميركية، ولن تغطي بعضها، بينما الآمال المعقودة على التعاون الاقتصادي مع إسرائيل، وعلى الاتجار الحر مع السوق الفلسطينية، تظل آمالا.كسر الحصار على العراق، يساوي، إذن، كسر »الحصار« على الأردن، ذلك الحصار المقبول، حكوميا، باعتباره، لا قضاء وقدرا فحسب، بل جزءا من واجبات التحالف مع المحاصِرين! »وشطارة« كمبرادورية لاستقبال »العولمة« التي تأتي، عندنا، في صورة عقوبات، لا في صورة استثمارات! فكان لا بد من صرخة احتجاج، أعطتها مظاهرات دمشق الجبارة، مداها وقدرتها…. القصف الاميركي البريطاني على العراق، حرّر المجتمع الاردني ليس فقط من الحظر الامني على النشاطات الجماهيرية، ولكن، ايضا، من هيمنة الأكاذيب الكمبرادورية المتأسرلة، بحيث لم يستطع نائب واحد (ومهما كانت تثقله الولاءات الحكومية) ألا يقول نعم لقرار رفع الحصار عن العراق.* * *.. فهل نفهم، إذن، لماذا تلح المعارضة الأردنية على بغداد ودمشق ان تتحدا، وبأي صورة، وعلى أي نحو؟!إن كل خطوة تقارب بين سوريا والعراق، تعني خطوة أردنية موازية ابتعادا عن واشنطن وتل أبيب.انه قدر البلد المشدود على حدود مركزين قوميين، يبدأ بهما، وينتهي »معهما«.