السؤال الأردني الآتي: «القاعدة» أم اليسار؟

ناهض حتّر *
يعيش الأردن كوميديا الحملة الانتخابية الحاليّة، النهاية الهزليّة لمرحلة كاملة، ويدخل في فراغ بانتظار مرحلة جديدة قد يكون عنوانها «القاعدة» أو اليسار. فالمشروع الليبرالي الجديد انكشف كلياً، بوصفه أداة لتكوين طبقة كومبرادورية جديدة. الخصخصة وتحرير السوق وإخضاع الدولة لمتطلّبات «الاستثمار» لم تؤدِّ إلى حلّ مشكلة المديونية العامّة وتكثيف فرص العمل أو تحسين الإنتاجية والتنافسية في الاقتصاد الأردني، بل إلى المزيد من البطالة والإفقار ـــــ الذي بدأ يطال الفئات الوسطى أيضاً ـــــ وتراجع المنظومة الإدارية والصناعة والزراعة، لحساب نشاطين رئيسيّين هما النشاط العقاري والمالي، اللذان صبّت فيهما معظم الأموال الناجمة عن احتلال العراق والفورة النفطية.
وبينما وقعت القطاعات الأكثر ربحية (كالاتصالات والصناعات المنجمية) في أيدي الرأسماليّين الأجانب، ظلّت الموازنة العامّة ترزح تحت أعباء أقساط المديونية الخارجية وفوائدها، تلك التي تستهلك حوالى ربع الإنفاق العام الإجمالي سنوياً.
ويعاني الاقتصاد الأردني الذي بُني على قاعدة النفط الرخيص ـــــ والصادرات الصناعية والزراعية إلى عراق ما قبل الاحتلال ـــــ من التداعيات «الكارثية»، حسب التصريحات الحكومية نفسها، للارتفاعات المستمرّة في الفاتورة النفطية. وبينما تحوّلت أفضل سهول البلاد إلى سلع عقارية، اصطدمت البلاد بأزمة الحبوب والأعلاف، وقد أصبحتا سلعتين استراتيجيّتين مرتفعتي الثمن في الاقتصاد العالمي. وإلى ذلك، هناك أزمة المياه، وهي تهدّد المدن الرئيسية بالعطش، وتكشف الطابع اللاعقلاني لتكثيف الاستثمارات العقارية في بلد فقير من حيث الموارد المائية، ولا يملك الإمكانات الماليّة الضخمة اللازمة لتمويل البدائل المائيّة، تلك التي لم يعد ممكناً تأجيلها.
ورغم تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فإن الخطط الرسمية ماضية في سياسات خصخصة وتحرير قطاع الطاقة، والتخلّي عن القطاعين الطبّي والتعليمي للقطاع الخاص.
ويترافق ذلك كلّه مع فشل مشروع الإصلاح السياسي ـــــ ذاك الذي يمثّل الحيّز الرئيسي في الخطاب الرسمي والمعارض منذ عام 1989 في تحقيق أيّ مكتسبات جدية على مستوى المشاركة في اتخاذ القرار الوطني. لقد أصبح واضحاً أنّ ذلك القرار محتكر كلياً من جانب مجموعة الليبراليّين الجدد المسيطرين في القصر الملكي والأجهزة. وليس هنالك أيّ اتجاه لدى هؤلاء نحو التخلّي عن الاحتكار الكامل للسلطات، وذلك لتأمين مصالح الطبقة الكومبرادورية الجديدة، اللاشرعية واللاقانونية، وكذلك لتأمين سلاسة تنفيذ الالتزامات الأمنية مع الحليف الأميركي.
وعلى هذه الخلفية، يتنامى الانشقاق الداخلي بين الأردنيين (57 في المئة من السكان) الرافضين للتوطين والكونفدرالية مع الضفّة الغربية، وبين الأردنيّين من أصل فلسطيني (43 في المئة) الذين تطالب غالبيّتهم الساحقة باعتبارهم «أردنيّين» بصفة نهائية، وإقامة نظام سياسي يستند إلى المحاصصة بين «الطائفتين» على النحو اللبناني والعراقي.
وليس لدى أيّ من القوى المسيطرة في الحكم والشارع الآن حلول لهذه المآزق الصعبة. فالليبراليّون الجدد يواصلون، مستأثرين بماكينة الدولة، برامجهم التي تعمل على تفجير التناقضات الاجتماعية والسياسية من دون اعتبار للمخاطر، في حين أنّ القيادات التقليدية (العشائرية ـــــ التقليدية) ليس لديها، ولا يمكن أن يكون لديها ـــــ بحكم تركيبتها غير المستقلّة عن ماكينة الدولة، وتخلّف وعيها الاجتماعي السياسي ـــــ برنامج مضادّ انقاذي، بل صراعات صغيرة في كواليس الحكم.
الحركة الإسلامية التقليدية بدورها، تظهر عاجزة إزاء التطورات. فقوّة «الإخوان المسلمين» تنتمي إلى مرحلة نظام الملك حسين. وهو الذي مكّنها من بناء شبكتها الاستثمارية والخيرية الضخمة، والاستئثار مطوّلاً بالتربية والتعليم، ودعم حضور «الإخوان» في الشارع الفلسطيني، سواء كوسيط مع السلطات في الأردن أو كبديل لمنظّمة التحرير في الضفّة والقطاع. ولا ريب أنّ هذه الترتيبات التي كانت جزءاً رئيسياً من استراتيجية الملك الراحل، كانت إضافةً إلى عوامل محلية واقليمية ودولية مشجّعة، هي المصدر الرئيسي لقوّة «الإخوان» ووحدتهم وصعودهم في الأردن وفلسطين منذ مطلع التسعينيات.
لم يغيّر «الإخوان» استراتيجيّتهم المحلية والإقليمية، ولا يستطيعون ذلك، بالنظر إلى عقليّتهم وثقافتهم وتركيبتهم الاجتماعية، بينما غيّر النظام الأردني استراتيجيته إزاءهم. وبتواطئهم الفعلي مع الليبراليّين الجدد ـــــ في برامج الخصخصة العزيزة على قلوبهم، والمتّسقة مع «الشرع»، ومع مصالح الاستثمارات الإخوانية ونشاطات أعضاء الكادر الإخواني في قطاعات الطب والتعليم والعقارات وسواها ـــــ يجد «الإخوان» أنفسهم عاجزين عن الاستجابة لضرورات تنظيم الاحتجاجات الاجتماعية. وفي الوقت نفسه، فإنّ القطيعة بين النظام الأردني و«حماس» من جهة، وتضاؤل نفوذ الإسلاميّين كوسيط سياسي لفلسطينيّي الأردن من جهة أخرى، أدّى إلى انشقاقهم الداخلي غير المعلَن بين أردنيّين ـــــ معتدلين خارجياً وميّالين إلى خطاب إصلاحي داخلياً ـــــ وبين أردنيّين من أصل فلسطيني ـــــ متشدّدين خارجياً، أي مؤيّدين لـ «حماس» وميّالين داخلياً، إلى صدام يعبّر بالأساس عن الغضب الفلسطيني النزعة. ومن المرجّح أن «المتشدّدين» يتّجهون إلى حرمان «المعتدلين» الدعم في الانتخابات النيابية المقبلة، وهو ما سيقوّض نفوذ الفريقين، ويكرس انشقاق «الحركة». وقد يعود الفريقان، في آخر لحظة، إلى التضامن المؤقّت، في مواجهة أنماط جديدة من رجال الأعمال الفلسطينيّين الذين يقدّمون أنفسهم الآن كممثّلين لمطالب «المحاصصة» في الحملة الانتخابية الحاليّة، لكن الاتجاه العام سيظلّ يتمحور حول انشقاق «الحركة» وضمورها.
وعلى هامش التحليل، لا بدّ بالطبع، أن نتذكّر بقايا التنظيمات القومية أو الفلسطينيّة العلمانيّة. ولكن مَن ذا الذي يأخذ نشاطاتها على محمل الجدّ؟ فهي تُنتسَب واقعياًَ إلى طروحات ومناخات شبعت موتاً، ولا يمكن إحياؤها في السياسة الأردنية بسبب وطنية المهمّات المطروحة وأولويّة طابعها الاجتماعي وتعقيدها غير المسبوق، في ظلّ الصراعات المتشعّبة المحتدمة في البلد والإقليم. وفي الفراغ السياسي الحاصل، هناك شبحان يلمحهما الرائي، أوّلهما يستعدّ والثاني لديه الإمكانية لملئه: التيار السلفي الجهادي والتيار اليساري. كلاهما قادر على إدماج الفئات الشعبية، في حركة واحدة، إمّا باتجاه وحدة الهويّة الطائفية السنية (القاعدة) أو باتجاه وحدة الهوية الطبقيّة (اليسار) والتعبير عن غضبها الاجتماعي والوطني: الأوّل بالعنف المسلَّح، والثاني من خلال تنظيم حركة الاحتجاجات والاعتصامات والاضرابات. لكن التيار السلفي الجهادي لا يقدّم، وليس مؤهّلاً لتقديم برنامج لحلّ المعضلات التي تواجه التقدّم الأردني. ومآل سيطرة السلفيّين الجهاديّين، كما نعلم بالتجربة، كارثي، لجهة اتساقه مع برنامج الفوضى الأميركية، وتصفية النخب والبؤر الحضارية والنزعات الثقافية والمدنية، في مشروع رجعي، سوف يغرق البلاد بالدماء والدموع والقمع الأسود، ويهدّد، في النهاية، بتدمير كل منجزات الدولة الأردنية.
ذلك ما يجعل البديل اليساري ليس فقط ضرورة اجتماعية، بل ضرورة وطنية ومدنية. وعلى عكس ما هو مقروء في الظاهر، فإنّ حركة اليسار الأردني ليست جامدة أو منكمشة، بل تعجّ بالتغيرات، وتتوسّع. هناك أولاً الخط الشيوعي التقليدي الباقي من الحقبة السوفياتية. وهو في الأردن خطّ معزول تماماً. وقد أسهم موقفه شبه المتطابق مع موقف الحزب الشيوعي العراقي من تأييد الاحتلال الأميركي للعراق، في إقصائه نهائياً عن الحركة الشعبية الأردنية الواسعة المؤيّدة للمقاومة العراقية. وإذا وضعنا جانباً الخطّ اليساري القومي «المتأسلم» الذي تُظهر قناة «الجزيرة» أحياناً بعض تعابيره دون أن يكون له وجود في الواقع، فيمكن القول إنّه يأتي في المقام الثاني خطّ اليسار الديموقراطي. وقد أظهر منذ مطلع العقد الحالي قدراً كبيراً من الحيوية والفعالية والحضور، من خلال النشاط في إعداد برامج الإصلاح السياسي الحكومية، والتدخّل الإعلامي والنيابي … لكنّ الرجل الأول في هذا الخط، موسى المعايطة، يعترف صراحة بأنّها أوهام انتهت مع تحوّل مشروع الإصلاح السياسي إلى «نكتة». والخطّ الثالث ـــــ والأخير ـــــ هو خطّ اليسار الاجتماعي، وهو خطّ صاعد يقترح النأي عن المقاربات العقائدية، أو التعاطي مع الاصلاحية السياسية الحكومية، والتركيز على استيعاب وتأطير حركة الاحتجاجات الاجتماعية في مشروع سياسي وطني.
التطوّرات الحاصلة في البلاد، تمنح اليسار الأردني، ربّما للمرّة الأولى في تاريخه، آفاقاً للتحوّل إلى حركة سياسية جماهيرية فاعلة وقادرة، تالياً، على الشاركة الجدية في صوغ المستقبل الوطني. لكن ذلك يظلّ مرهوناً بالتوصّل إلى حلول فكرية وسياسية جديدة إزاء ثلاث قضايا رئيسية هي: أوّلاً أيديولوجية الوطنية الأردنية، والدولة ودورها الخاص في المشرق العربي، ومحورية الصراع مع اسرائيل، وثانياً اقتراح برنامج اقتصادي اجتماعي يوائم بين ضرورة تحقيق اختراق تنموي تنافسي على الصعيد الإقليمي وبين متطلّبات الديموقراطية الاجتماعية، وأخيراً التحديث الثقافي.
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.