الرأسماليّة تعود إلى ماركس… على اليسار أن يتجاوزه!

*
الأزمة المالية الأميركية ـــ العالمية الراهنة هي أزمة غير مسبوقة، ولا تفيد مقارنتها بأزمة الكساد الكبير لعام 1929 في الولايات المتحدة. تلك كانت أزمة تحت المجهر الماركسي، أي أزمة ناشئة عن «الميل إلى انخفاض الربح» في الرأسمالية. أزمة الرأسمالية اليوم هي أزمة ما بعد ماركسية، ذلك أنها تمثل الفشل في المجابهة الرأسمالية الأيديولوجية للنقد الماركسي.
لا يشاهد السياسيون والإعلاميون والمحللون الآن سوى رأس جبل الجليد البارز فوق الماء، لكن الجبل نفسه ضخم جداً، ونظرة واحدة إلى ضخامته وتعقيداته سوف تقودنا إلى استنتاج رئيسي لا مناص منه: موت الرأسمالية. وهو استنتاج خطر ما دام البديل الأيديولوجي ليس جاهزاً ولا مقاتلاً. وإذا لم يسارع اليسار إلى القتال، فإن موت الرأسمالية سيؤدي إلى صوملة العالم.
دعنا نعُد إلى ماركس: كان خيار الرأسمالية ـــ بقيادتها الأميركية ـــ للرد على حقيقة ميل الربح إلى الانخفاض، وبالتالي الكساد والانهيار المالي والبطالة المعمّمة، قد اتخذ طابعاً أيديولوجياً يكسر نظرية الماركسية بشأن أولوية البنى التحتية على الأفكار والعواطف والغرائز. وقد اعتمدت الرأسمالية الأميركية، بخلاف ادعاءاتها، بصورة أساسية، على سلطة الدولة المطلقة في محاولتها، التي فشلت في النهاية، لإنقاذ نفسها.
بعيد عام 1929، اعتُمدت الكنزية التي تقوم على تدخّل كثيف وصريح للدولة في السوق، ثم استُخدمت سلطة الدولة ومواردها في الحرب العالمية الثانية، لإنعاش الرأسمالية بوسائل حربية، ولاحقاً لحقن أوروبا بالمال في مواجهة الاشتراكية (خطة مارشال) بالتزامن مع إشعال الحرب الباردة والحروب الساخنة. الحرب أتاحت تنظيم الاقتصاد وتطوير التقانة وتمويل تسوية اجتماعية مع الفئات العمالية والوسطى في الداخل، لكن من دون تسوية أيديولوجية. فقد ترافقت دولة الرفاه بالتحشيد المثابر والحقود والمتصلب ضد الاشتراكية والإنسانية وفرض أيديولوجية الرأسمالية على الوعي العمالي ووعي الشعوب في العالم.
الرأسمالية الأميركية ربحت الحرب الباردة بمدافع الأيديولوجيا تحديداً. وهي ربحتها لأن المجموعة الاشتراكية والحركات اليسارية في العالم كانت قد ظلت أسيرة الماركسية، بينما خاضت الرأسمالية حربها منطلقة من ما بعد ماركس: أي من أولوية الأيديولوجية. ولذلك، بادر العديد من المحللين إلى النظر إلى الأزمة الحالية بوصفها إعادة اعتبار إلى ماركس. صحيح. لكنه صحيح فقط من وجهة نظر الرأسمالية. فالرأسمالية الأميركية ـــ العالمية الآن بحاجة إلى ماركس لكي تهبط على أرض الواقع من علياء الأيديولوجيا والاقتصاد الأيديولوجي، لكن اليسار الآن بحاجة إلى ما بعد ماركس، أعني أنه يحتاج إلى الأيديولوجيا، إلى شن حرب أيديولوجية شاملة وجذرية على الرأسمالية وثقافتها وأساليبها ونمط حياتها.
لقد اقتعد اليسار أرض الواقعية طويلاً، وآن له أن يحلق في سماء انقلاب الوعي الإنساني. الرأسمالية ليست فاشلة فقط بل كريهة ولاإنسانية وفقيرة أخلاقياً وعاطفياً وفكرياً. هنا، ينبغي تقديم الأنموذج الإنساني على الأنموذج الاقتصادي، أي التحرر من الواقعية الاقتصادية التي تقود حتماً إلى الوقوع في شرك الأيديولوجيا الرأسمالية.
خلال العقدين الأخيرين من نهاية الحرب الباردة، التي رأتها الرأسمالية الأميركية «نهاية للتاريخ» وللواقع كله، قامت الرأسمالية المعولمة بمغامرتها الكبرى في هجوم لا ينثني لتجاوز النقد الماركسي الواقعي من خلال تجاوز الاقتصاد الواقعي إلى الاقتصاد الافتراضي، وهو في النهاية اقتصاد أيديولوجي يقوم على اقتراح أدوات مالية افتراضية واستثمارات مالية وعقارية كبرى، ليس انطلاقاً من الاحتياجات الواقعية، بل من الافتراضات الأيديولوجية بشأن عبقرية الأسواق الحرة.
الأفكار الرئيسية المترابطة للاقتصاد الأيديولوجي هي: 1ـــ فصل العرض عن الطلب، 2ـــ فصل العرض عن القوة الاستثمارية، 3ـــ فصل الطلب عن القوة الشرائية. وقد تجسدت هذه الأفكار في الدفع نحو خلق عروض خدمية ومالية وعقارية واستشارية الخ… ليست مطلوبة في السوق، انطلاقاً من إيمان راسخ بأن العرض يولّد الطلب وليس العكس بالضرورة. وسوف ننتبه هنا إلى الأهمية المطلقة للإعلان والإعلام في تنفيذ هذه الفكرة.
ولقيام بيئة الأعمال المناسبة للمنتجات الافتراضية، فُرضت سلة من القوانين والاتفاقيات المطابقة لأفكار الليبرالية الجديدة على مستوى عالمي وتحرير الأسواق كلياً. لكن ظلّت الحاجة الفعلية قائمة لتمويل المشاريع الافتراضية التي يقوم بها رأسماليون افتراضيون بدورهم، أي إنهم لا يتوافرون على رؤوس أموال بالأحجام الخيالية المطلوبة للاستثمارات العقارية والمالية والخدمية الافتراضية، التي لا تعبر عن طلب حقيقي.
هنا، يأتي دور الجهاز المصرفي في تقديم التسهيلات المالية «للمستثمرين» من دون ضمانات في أصول شغالة (أي مدرّة لقيم فعلية). ولتوزيع مخاطر هذه التسهيلات، ابتُدعت أدوات مالية عديدة عقيمة لكنها متداولة على أساس قيمة افتراضية.
في المستوى الثالث، جرى حفز الطلب اصطناعياً من خلال منح القروض والبطاقات المالية للجمهور من دون قيود، بل من دون أدنى علاقة واقعية بين الإقراض والقدرة على السداد.
بدأ هذا الاقتصاد الافتراضي بالتأزّم مع مطلع الألفية الثالثة. لكن، بدلاً من العودة إلى الهبوط الآمن على أرض الواقع، آمن المحافظون الجدد الذين تولوا السلطة مع جورج بوش الابن بإمكان تصعيد الاقتصاد الافتراضي إلى ما لا نهاية، وذلك عن طريق تصعيد الحرب الأيديولوجية إلى حدود «الصدام بين الحضارات»، واستخدام القوة المسلحة في حرب مفتوحة لا تعرف حدوداً ولا أهدافاً حربية، بل هي «حرب دائمة»، استوحاها المحافظون الجدد من ماضيهم التروتسكي في «الثورة الدائمة».
من حروب أفغانستان إلى العراق إلى فلسطين إلى لبنان إلى جورجيا إلى الباكستان، إلى التوتير الأمني والسياسي والتصعيد الدبلوماسي و«الثورات البرتقالية» في مناطق عديدة من العالم، إلى التهديد بحروب جديدة في إيران وسوريا والبلقان، قادت الولايات المتحدة الأميركية محاولة تاريخية للانقلاب على التاريخ، وشطب الواقع، وإعادة تشكيل المجتمعات والدول والمناطق في سياقات افتراضية هي الأخرى، لكن ملطخة بالدم. وقد فشلت هذه المحاولة الجريئة والإجرامية أمام واقعيّة الوجود الاجتماعي، فاتجه الأميركيون إلى تفاهمات واقعية من شأنها تجميد الخسائر والبحث عن بدائل واقعية للنفوذ السياسي والاقتصادي.
وبخلاف الحرب العالمية الثانية التي جنت بعض فوائدها فئات اجتماعية واسعة في الاقتصاد الكينزي الأميركي، ذهبت أرباح حروب المحافظين الجدد إلى عدد من الشركات وعملائها في العالم الثالث، بينما دفع العمال والموظفون الثمن الباهظ للحروب الاستباقية.
فشل نهج الحرب الدائمة، كان يضغط بدوره على فقاعة الاقتصاد الافتراضي الأميركي ـــ العالمي. وبرزت إشارات مبكرة إلى انفجار الفقاعة، تمثلت في الارتفاع غير المسبوق في أسعار السلع والخدمات الحقيقية (الغذاء والبترول والمواد الخام والطبابة والسفر إلخ…). ثم انتهت الفقاعة إلى انفجار أعاد أو أنه سيفرض على الرأسمالية العودة إلى ماركس، أي إلى أولوية الواقع على الأيديولوجيا. بالمقابل، حان الوقت بالنسبة لليسار العالمي للذهاب إلى ما بعد ماركس، أي إلى شن حرب أيديولوجية جسور تكنس واقعية الرأسمالية من العالم، قبل خرابه النهائي.
* كاتب وصحافي أردني

Posted in Uncategorized.