أيام صعبة قلقة يقضيها المشرق العربي في الربع ساعة الاخيرة قبل تشكّل النظام الاقليمي الجديد. الهجمة الامريكية شاملة, وقد حققت نجاحات سياسية في استيعاب الربيع العربي, لكن المؤشرات تدلّ على المصاعب الجمة التي تواجهها الولايات المتحدة وحلفاؤها في الخليج وتركيا وأدواتها الاخوانية والسلفية, في مساعيها لكسر سلسلة الحلف البازغ الذي يمتد من قلب اسيا الى البحر المتوسط (الصين, روسيا, ايران, العراق, سورية, لبنان).
الصين تتململ. فاستراتيجيتها للتوسع الاقتصادي وصلت مداها, ولم تعد ممكنة من دون استراتيجية سياسية وعسكرية موازية. وربما كان استيلاء الاطلسي على ليبيا لحظة يقظة لبيجين التي تجد اليوم ان مصالحها الافريقية المتسعة ليس لها انياب. فهي, بالتالي, مهددة. ويجد الصينيون اليوم ملاذا في التحالف مع روسيا البازغة مجددا كقوة دولية رئيسية.
هنالك لدى الكثيرين تباطؤ في فهم ما يحدث في روسيا, يتأسس عليه اعتقاد بأن موسكو قد تكون مستعدة لبيع سورية في صفقة مع الغرب. وتثبت التطورات عكس ذلك. فمما له دلالة حاسمة ان تقوم موسكو التي ارسلت قطعا بحرية الى الشواطىء السورية, بالكشف عن تزويد هذا البلد بمنظومة صواريخ متطورة مع طواقمها في هذا الوقت بالذات, معلنة ان سورية هي ‘ جزء من امنها القومي’. ليس لسورية ثمن لدى الروس المتجهين لاعادة بناء منظومة دولية مركزها سورية التي اذا وقعت في ايدي الاطلسي فسينهار حليف روسيا الايراني (ومعه حزب الله وحلفاؤه في لبنان) وتتراجع الاحتمالات في استقلال وتماسك العراق وانضمامه الى السلسلة الاستراتيجية الجديدة.
في الاثناء, يعيش الاقليم عشية انتصارين ايرانيين على الولايات المتحدة والغرب; انتصار في الملف النووي الذي افلت من الحصار والحرب المستحيلة, وانتصار في العراق الذي تغادره القوات الامريكية مرغمة نهاية العام بلا نفوذ, بينما تتقاسم طهران ودمشق, عناصر ترتيب عراق ما بعد الاحتلال. منذ الان, اصطفت بغداد الى جانب السوريين من خلال تقديم اشكال متعددة من الدعم الاقتصادي بما يكسر اية اثار لقرارات الجامعة ‘ العربية’.
داخل سورية استعاد النظام الميادين والشوارع من المعارضة الخارجية. وبينما يتظاهر مئات الالوف من السوريين الرافضين للحصار والتدخل الخارجي والمجموعات المسلحة, هبطت اعداد متظاهري الضد الى عدة مئات في مناطق محددة.
النظام السوري يتجه الى تجديد نفسه, دستوريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا ودفاعيا. سورية الجديدة,التي نبذت خطيئة النيوليبرالية واقتصاد السوق, سوف تعزز نمطا اكثر جذرية من الاقتصاد الدولتي والعدالة المجتمعية والتحرر السياسي. وبما ان التطورات تتجه الى حلف دفاعي مع روسيا, فسوف يضغط تصاعد الوطنيّة السورية نحو سياسات تفعيل الصراع على جبهتين, اسرائيل, بالانتقال من الممانعة الى المقاومة لتحرير الجولان, وتركيا التي ستدفع غاليا ثمن نزوعها العثماني وولائها الاطلسي. وسوف يعود لواء الاسكندرون المغتصب ليكون على جدول الاعمال الوطني في سورية. اما القوى الهامشية مثل جبهة 14 اذار في لبنان وقطر والاخوان المسلمين, فستجد نفسها في مأزق لا تحسد عليه.
ليست بلا معنى استهانة الرئيس بشار الاسد, في تصريحات حديثة له, بالدولة التركية. فهذه الدولة هشة فعلا, وقادتها حكومة اردوغان العثمانية الى مواجهة اخطار تتهدد بتفكيكها. ذلك ان هنالك انشقاقين كبيرين في تركيا, قومي يتعلق بملايين الكرد ومذهبي يتعلق بملايين العلويين.
الخليج بلا منظومة امنية قادرة على حمايته من الداخل. وتتزايد, لذلك, اعتماديته على الحماية الامريكية. لكن ما هو ضروري لشلّ الخليج امنيا واقتصاديا, لا يتطلب الكثير من الجهود حين يتقرر الرد على التدخل الخليجي في سورية.
كل هذه الاحتمالات الواقعية تضغط على التحالف المعادي لسورية, وتدفعه الى لعب كل اوراقه بصورة متسارعة حتى من دون الحفاظ على خط الرجعة. وقد يلجأ الى خيارات جنونية, ومنها الحرب التي لا يمكن الا ان تكون شاملة. فالرد السوري الناجع على عدوان تركي اطلسي سيكون بإشعال الجبهة السورية اللبنانية مع اسرائيل, والدعم الايراني العسكري للسوريين لن يكون في سورية, بل بالاشتباك مع القوات الامريكية في الخليج. وستكون روسيا مخيرة بين التورّط والخروج من المنطقة وطي مشروع العودة نهائيا. وعلينا ان نتخيل بالطبع ما يلي من حروب فرعية.
وسط كل ذلك تبدو اسرائيل هامشية في حجمها ودورها. وهي تنتظر حربا لم تحددها وغير معروفة النتائج او تنتظر الاسوأ حين ينجح الحلف الروسي الايراني العراقي السوري بملء الفراغ في المنطقة. ولذلك, تظهر تل ابيب في حالة انعدام الوزن.
هكذا, من البلاهة تبسيط الملف السوري الى قصة صراع بين نظام مستبد ومعارضة ليبرالية اسلاموية. فالصراع في سورية, وعليها, معقد تعقيدا بالغا, وستترتب لا على نتائجه فقط بل على مساره ايضا, تفاعلات واستحقاقات كبرى. وهو ما يتطلب من الاردنيين التبصّر والحكمة وتجنّب التورّط والسير الحذر بين الالغام. ان الوضع الاقليمي والدولي معقد بحيث ان الخطأ ممنوع, وعلينا ان نخرج من معمعان المرحلة بشعبنا موحدا وآمنا وبلدنا سالما ودولتنا حاضرة, قضية ومشروعا.
(العرب اليوم)