الكاتب الإسرائيلي يفجيني كلاوير (المصدر، 23 نيسان 2016) يلخّص المشهد في الشرق الأوسط، اليوم، كالتالي: ‘ من جهة، لا يتخلّى بوتين عن سوريا، الأسد، وإيران. ومن جهة أخرى، فإنّ المحور السني – السعودي -المصري يعتبر روسيا ضمانا لأمنه. وداخل هذه العلاقات المتشابكة، تقف إسرائيل أمام تحدّ صعب’.
بلا شك أن إسرائيل أمام تحدٍ صعب فعلا، إلا أنه لديها ما تساوم عليه، وستجد لها مكانا في ‘الشرق الأوسط الروسي’؛ أما التحدي المصيري، فهو الذي يواجه الأردن. إن الأردن الآن معزول استراتيجيا عن الكتلتين الكبيرتين اللتين تتشكلان:
محور موسكو ـ طهران ـ بغداد ـ دمشق ـ بيروت؛ الأرثوذكسي ـ الشيعي، إنْ شئتَ ، الحاضر في حلف عسكري استراتيجي صريح؛
ومحور السعودية ـ مصر؛ السني إن شئتَ، الحاضر في تنامي العلاقات الاستراتيجية بين الرياض والقاهرة، والمتجسد في جسر عملاق على البحر الأحمر يربط الخليج بمصر والمغرب العربي، قافزا عن الأردن وموقعه ومصالحه ودوره، وقافزاً، أيضا، عن كامب ديفيد، أي، في الواقع، عن إسرائيل، جغرافيا وسياسيا.
تمسك روسيا بخيوط المحورين؛ فتحدد مسارَ الأول، وتضبط إيقاع المسارَ الثاني، بينما توصلت إلى عقيدة استراتيجية حول تركيا كعدوّ؛ تركيا ـ أردوغان التي ستدفع، غاليا جدا، ثمن المشروع المجنون لاستعادة السلطنة العثمانية؛ أما بالنسبة للأردن وإسرائيل، وبينهما القضية الفلسطينية، فهذا فضاء متروك خارج المحاور والمعادلات، أي متروك للتفاعلات المحلية، كما سنرى تاليا.
كيف أصبح الجولان قضية روسية؟
في خطوة تصعيدية تثير السخرية، عقدت الحكومة الإسرائيلية، اجتماعا في الجولان السوري المحتل، والتقط أعضاؤها صورا استعراضية وهم بقضمون التفاح الجولاني الشهير، بينما كان رئيس الحكومة الصهيونية، بنيامين نتنياهو، يصرّح بأن ‘ الجولان سيبقى في يد إسرائيل إلى الأبد.’
ردت الحكومة السورية على هذا التصعيد السياسي بتصعيد مماثل؛ فاعتبرت الخارجية أن خيارات تحرير الجولان ‘ مفتوحة.’
لم تنبس التنظيمات المسلحة المعادية لدمشق، المتطرفة منها والمعتدلة، بكلمة واحدة ضد تل أبيب. وقد يبدو ذلك مستهجَناً للمراقب المحايد؛ فمهما كان حجم العداء لنظام الرئيس بشار الأسد، وبغض النظر عما إذا كان ذلك العداء محقاً أم لا، فإن أبسط المعايير الوطنية تحتمّ على المعارضين السوريين أن يتخذوا موقفا ضد الاحتلال الأجنبي لأرض سورية.
ونحن لا نشير، هنا، إلى التنظيمين التكفيريين الإرهابيين، ‘ النصرة’ و’ داعش’، اللذين لا تقيم أيديولوجيتهما الدينية أي وزن للوطن والوطنية، وإنما نتحدث عن المعارضات الأخرى، سواء أكانت إسلامية أم ليبرالية، ونسأل: لماذا تخرس أمام إسرائيل؟
في واقع الأمر، يدرك كل الناشطين والمعارضين والمقاتلين في ما يسمى ‘ الثورة السورية’، ومنذ انطلاقها ربيع العام 2011، أن معادلة موازين القوى الإقليمية والدولية، لا تسمح بإسقاط نظام الرئيس الأسد من دون التخلي عن الجولان للمحتلين الإسرائيليين، ولا تسمح له بالاستمرار من دون استردادها. وتفسّر هذه الحقيقة كل ما جرى من مغازلات سياسية بين المعارضين والإسرائيليين، ومن تعاون ميداني حثيث بينهما، بما في ذلك الدعم اللوجستي والاستخباري والتسليحي الإسرائيلي للتنظيمات المسلحة في جنوب سوريا، وخصوصا حصول الآلاف من ‘ الثوار’ السوريين على الخدمات الطبية في المستشفيات الإسرائيلية.
سواء أكان نظام الرئيس الأسد، جيدا أم لا ، مقاوما أم لا؛ فإنه كان ، ولا يزال، واضحا أن إسقاطه يظل مشروطاً بإسقاط قضية الجولان بتنازل سياسي مباشر كما فعلت شخصيات معارضة علنا، أو بصورة غير مباشرة من خلال إسقاط الدور الإقليمي لدمشق، والمساهمة الفعالة في الاعتداءات الإسرائيلية على مواقع ومنشآت للجيش السوري ليس لها علاقة بالصراع الداخلي، كرادرات الدفاع الجوي مثلا.
خارج نطاق الجدل السياسي والأيديولوجي والأخلاقي حول نظام الرئيس الأسد، لا يستطيع محلل جدي أن ينكر أن الغرب وحلفاءه، دعموا ما يسمى ‘ الثورة السورية ‘ ، لا حباً بالديموقراطية، وإنما لمعاقبة النظام السوري على نهجه المعادي لإسرائيل ودعمه لمنظمات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، وجهده التسليحي ورفضه لتقديم تنازلات إقليمية في الجولان وتوقيع معاهدة سلام مع تل أبيب؛ لقد تمسكت دمشق، تقليديا ومبدأياً، بحصولها على كامل الأراضي السورية المحتلة العام 1967، للموافقة على ‘ علاقات سلام اعتيادية’ لا تشمل التطبيع الإلزامي مع إسرائيل.
من أجل دعم موقفها السياسي هذا، وحمايته، وتلافي المواجهة العسكرية المباشرة مع الإسرائيليين ـ مع أنها حدثت عدة مرات ـ لجأت دمشق إلى بناء علاقات استراتيجية مع إيران، والحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع روسيا، خصوصا للحصول على تسليح حديث للجيش السوري، ودعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية، ولاحقا العراقية. والسر في كل هذه السياسات أنها تشكّل وسائل ضغط لاسترداد الجولان، كاملا ومن دون تنازلات سيادية أو حتى تمس بصورة سوريا كمركز للقومية العربية. وهو ملف لا يمكن للنظام السوري التخلي عنه لسبب بسيط هو أنه يشكل العمود الفقري لشرعيته الداخلية. ولذلك، لم يتردد الرئيس بشار الأسد، لحظة واحدة، في أن يقول لا صريحة لوزير الخارجية الأميركي، كولن باول الذي قدم إلى دمشق، بعد احتلال العراق 2003، لكي يفرض شروطه. وهي تخلّي سوريا عن أدوات الضغط المار ذكرها، والإنخراط في مفاوضات، من دون أوراق قوة، مع الإسرائيليين. لم يمانع النظام السوري، يوما، في التفاوض، ولكنه ظل حريصا على الإمساك بعناصر قوته التفاوضية : العلاقة مع إيران، والتسليح الروسي، ودعم حركات المقاومة، في ما عُرف باستراتيجية ‘الحرب خارج الأسوار’. وهي استراتيجية سقطت منذ العام 2011، حين انتقلت الحرب إلى داخل الأسوار، وسقط الستاتيكو القائم في الجولان، وانفتح باب الاحتمالات؛ بالنسبة لإسرائيل حصلت على فرصة لفرض واقع توسعي على حساب سوريا من خلال إسقاط النظام السوري والفوضى أو الفدرلة الخ، وكان الرد السوري بنقل المقاومة إلى الداخل السوري، وتمكين حزب الله من ربط جنوب لبنان بجنوب سوريا.
أوقف التدخل الروسي كلا الاحتمالين، لكنه خلق واقعا جديدا لم يعد ممكنا معه الرجوع إلى ستاتيكو ما قبل 2011 ؛ توجهت تل أبيب إلى موسكو طالبةً عودة الوضع القائم في الجولان قبل 2011 (أي جولان معترف باحتلاله من دون استيطان وموضع مفاوضات مقابل غلق امكانية اطلاق مقاومة على أرضه). إلا أن موسكو رفضت، بل وفوجئ الإسرائيليون بالاتفاق الروسي ـ الأميركي على إدراج الإنسحاب الإسرائيلي من الجولان، كجزء من تسوية الأزمة السورية.
بالنسبة للروس أصبح إجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن الجولان السوري ومزارع شبعا، والإنهاء القانوني لحالة الحرب أو المقاومة على الجبهة السورية ـ اللبنانية، يشكّلان ـ مع أولوية هزيمة الإرهاب بالطبع ـ الإطار اللازم لتحقيق الأهداف الاستراتيجية التالية:
أولا، التوصل إلى شرعية جديدة للنظام السياسي السوري تسمح بحل الأزمة الداخلية، من دون المساس بالوضع الخاص لروسيا في سوريا ولبنان،
ثانيا، التوصل إلى فك التحالف الإسرائيلي ـ التركي، وتحجيم تركيا ـ ومخاطر العثمانية الجديدة على الكيانات الإسلامية في الاتحاد الروسي، بوساطة بناء سوريا موحدة علمانية وقوية،
ثالثا، التوصل إلى استئصال الإسلام السياسي ودفع الشرق الأوسط كله نحو صيغ علمانية ومدنية،
رابعا، التوصل إلى منظومة اقتصادية ـ مضمونة أمنيا ـ لاستثمارات الغاز في شرقيّ البحر المتوسط، يكفل لموسكو استمرار سيطرتها على سوق الطاقة في أوروبا،
خامسا، التوصل إلى أرضية لاستثمارات التحالف الروسي ـ الصيني، ودول البريكس في سوريا ولبنان والعراق.
الإسرائيليون والمأزق والحل
الإسرائيليون هم أكثر مَن يدرك أن الإستراتيجية الروسية هذه، هي قضية وجودية لروسيا الاتحادية التي ترتكز أسس أمنها القومي ومصالحها الاقتصادية ودورها الدولي على سيطرتها المرنة على فضائها الإسلامي المتصل بخط موسكو ـ طهران ـ بغداد ـ دمشق ـ بيروت.
والإسرائيليون أكثر مَن يدرك أن موازين القوى المستجدة دوليا، بل ومستقبل كيانهم، لا يسمحان باعتراض المشروع الروسي، ولكنهم يسعون، بالمقابل، للحصول على مكتسبات إقليمية، لقاء الإذعان.
تم توقيت الاجتماع الاستعراضي للحكومة الإسرائيلية في الجولان السوري المحتل، وإعلان نتنياهو أن الجولان ‘إسرائيلي إلى الأبد’، قبيل زيارته إلى موسكو، حيث أطلق، في العلن، تصريحات تمثل أعلى سقف ممكن؛ لكنه، في الغرفة المغلقة، كان يستجدي، أولا، تلافي الاشتباك مع الروس، ويعرض، ثانيا، الانخراط في المنظومة الإقتصادية والأمنية الروسية في الشرق الأوسط، والقبول بالحل الروسي في سوريا، مقابل الاعتراف بضم الجولان إلى إسرائيل. وهو يعرف، بالتأكيد، أن هذه المعادلة غير ممكنة واقعيا، لكن، لدى الحكومة الإسرائيلية، خطتها للنزول عن الشجرة مقابل العودة إلى الجدل التقليدي حول حدود الانتداب التي اقترحها رئيس الوزراء السابق، باراك، كأساس للإنسحاب، وحدود ال67 التي تصر عليها دمشق.
بالنسبة للمقاربة الروسية ـ المقبولة أميركياً، فمن دون إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للجولان ومزارع شبعا، وفقا للشروط السورية ـ اللبنانية، فإن استيعاب المقاومة وضبط الإيقاع الإيراني وتأسيس شرعية جديدة في سوريا ولبنان، كلها لن تكون ممكنة.
ما المطلب الإسرائيلي القابل للتحقيق الواقعي، إذاً، ولا يتعارض مع المشروع الروسي؟
الفضاء السوري ـ اللبناني أصبح روسيا، ولا مكان فيه لمطالب دولية أو إقليمية، والفضاء الخليجي المصري يتواصل خارج الحاجة إلى إسرائيل؛ بالمقابل، هناك فضاء رخو أمامها، هو الفضاء الفلسطيني ـ الأردني، حيث (1) لا توجد قوى محلية قادرة على تشكيل تحدي جدي لإسرائيل، (2) ولا يوجد ما يعرقل تطوير وضع السلام الموجود أصلا منذ العام 1993 و1994، باتفاقيتيّ أوسلو ووادي عربة، (3) بينما يوجد تنسيق أمني كامل بين كل من تل أبيب ورام الله وعمان، (4) وتوجد مصالح محلية لدى الفئات المسيطرة في البلدين لتقديم تنازلات إقليمية تسمح لإسرائيل بضم أجزاء من الضفة الغربية، وإنهاء مشروع إقامة دولة فلسطينية، وإلغاء حق عودة اللاجئين، وحل القضية الفلسطينية، نهائيا، من خلال فدرالية سكانية أردنية ـ فلسطينية، أصبح واضحا ، وفق التطورات الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية والسياسية والتشريعية والدستورية في الأردن، أنها على وشك الحدوث في إطار شامل ل ‘الحل الأردني’.
هل ستوافق موسكو على هذه الصفقة؟
ليس هناك ما يحول دون ذلك، خصوصا وأن الروس لا يملكون في فلسطين والأردن، روافع محلية؛ لا شرعية مؤسسة على مقاومة إسرائيل، ولا مقاومة، ولا علاقات تحالفية مع إيران، ولا قدرة ـ أو رغبة ـ بتهديد مصالح الخليج. وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن جغرافية الضفتين تقع خارج القوس الصيني الروسي الإيراني العراقي السوري اللبناني. وهو المجال الحيوي والأمني لروسيا الجديدة.