ناهض حتّر
مرّةً أخرى، الجماهير تصنع التاريخ في دنيا العرب بعد غيابٍ طويل، ومرّةً أخرى، ابتداءً من لبنان…
مرّةً أخرى، الجماهير… بالمعنى الحرفي للكلمة، أي بمئات الآلاف، منظمةً بلا تراخٍ، بلا عصبيّةٍ ولا عصبيَّات… بانتظامٍ دقيقٍ وقلبٍ واحدٍ، رجالاً ونساءً وشباباً وصبايا وأطفالاً، في جمعٍ كثيفٍ بلا ازدحام ولا فوضى، واصرارٍ عنيف بلا عنف، وارادةٍ مصممةٍ بلا أحقادٍ ولا تخريب. جماهيرُ واعية لحضورها السياسي، ودورها، وقوتها، تقتحم التاريخ.. وتعتلي صهوته…
وليست القصة إطاحة حكومة السنيورة وتحالف 14 شباط، من موقع سياسي مضاد، وطني شعبي لبناني. فهذا المستوى الأول من الجهاد هو «الجهاد الاصغر».. أما «الجهاد الأكبر»، فهو الجهاد ضد نوازع الذات المتخلفة الغريزية، ضد الطائفية والمذهبيّة والانقسامات الفئوية، اتحاداً تحت راية واحدة، راية «الوطن الصغير» الذي آن له ان يكتسب، في عالمنا العربي، شرعيته الكاملة، طالما انه، مثلما هو فعلاً، السياق الواقعي الوحيد، للنضال السياسي الحقيقي الفاعل الحداثي.
الجماهير.. الجماهير الوطنية بمعنيين: الأول انها جماهير تخترق الطوائف والفئات والتيارات اللبنانية، في سياق سياسي ديمقراطي، يحولها كتلةً اجتماعيةً وطنية فوق الطوائف والفئات والتيارات.. والثاني، انها جماهير المواجهة مع المشروع الامريكي في لبنان وسياساته وأدواته.
الجماهير.. الجماهير الشعبية، بالمعنيين، الأول انها من قلب المجتمع، تعبير عن نبضه – فلم تحشدها أجهزة أمنية أو ادارات حكومية – والثاني انها تنطلق مع مواقع الكادحين والفئات الوسطى في مواجهة الليبرالية الجديدة والخصخصة وتغييب دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي، واختلاط التجارة بالسياسة في هذا الانموذج الامريكي المفروض على لبنان والمنطقة.
الجماهير.. الجماهير المناضلة التي هزمت اسرائيل في حرب تموز – آب، فاستشعرت قوتها، وجمعت صفوفها من اجل تصفية الحساب مع الحرب السياسية الامريكية على الشعب اللبناني..
الجماهير.. الجماهير العربية التي استعادت بيروت الى هويتها القومية، وامجادها النضالية، واستنطقت صرخة الجبل والبحر..
«بيروت حرة… حرة»
«امريكا اطلعي برّه..»
الجماهير.. الجماهير الحرة التي لم يعد يكبّلها ضابط مخابرات/تاجر يفرض صفقات باسم «عروية اجبارية»، هي نفسها التي ثأرت لسورية العروبة – في ساحة الحرية نفسها حيث أُهينت، في 14 آذار ،2005 تضحيات الجيش السوري التي لطخها الطغاة والتجار والتحالفات الميكافيلية.
الجماهير.. الجماهير الفوارة بالكرامة والحماسة، المستعدة لتلبية نداء التغيير والاصلاح والتحرير.. ليست جمعا من افراد، بل اعضاء وانصار احزاب وتيارات وروابط وجمعيات ديناميّة متفاعلة قادرة على التحشيد السياسي.
الجماهير.. الجماهير.. الحزبية .. ليست كتلةً هلامية ولا فكرةً في نقاش عابر، بل مجاميع منظمة مؤطرة حزبية، هي جزء لا يتجزأ من العملية السياسية، وليست هواماً وعواطف ومطالب فردية.
الجماهير.. الجماهير الواعية القادرة على التحرر من العنصرية وفوضى الشعارات الفئوية.. لا تهتف «خيبر خيبر يا يهود!» بل «هيا على التغيير.. هيا على التحرير»
الجماهير.. الجماهير التي انتقلت بلبنان من الاحقاد الطائفية الى التحالف الوطني وآفاق الحرية، تلعن «صناع الفتن» وتهتف .. «كلنا للوطن»! و «ونحن النصارى .. انت نصرنا».
الجماهير … الجماهير.. الجماهير.. عندما تنزل الى الشارع.. الى ميدان القرار الوطني، تحدث ثورة الحداثة.. فالحداثة هي، في الاخير، اقدام وقدرة المواطن على صنع حياته والتحكم بمسارها، وعلى المشاركة – الفعلية – في القرار الوطني.