وجد الغزاة الأمريكيون, شريكا مدفوعا, هو الآخر, إلى المشاركة الفعالة في تنفيذ خطتهم التي عرضناها أمس, أعني إيران التي لها هي الأخرى مصلحة استراتيجية في تدمير إمكانات العراق التكنولوجية ومطاردة نخبه والاستيلاء على قدراته التصنيعية, على خلفية المنافسة الإقليمية والانتقام, وكذلك : لجم إمكانات التحرر الأيديولوجي وإعادة تأسيس الإسلام لمتطلبات القرن الحادي والعشرين, في أفق إلغاء التشيع والتسنن معا, واستعادة وتحديث النزعة التوحيدية الكونية التي كان العراق منبعها على مر التاريخ.وهكذا كان لا بد من إحداث التغيير في بنية ‘ العدو’ العراقي, لكي تتلاءم مع بنية الغازي الأمريكي الصليبي, أي تغيير العراق من المدنية الى السلفية, المستعدة للحرب ولكن أيضا, للتفاهم على المشترك : منع التقدم العراقي الذي يهدد الفريقين :ـ 1- يهدد الأمريكيين بولادة مجتمع عربي عراقي تتزاوج فيه الثروة النفطية مع القفزة التنموية – العلمية – التكنولوجية, الى ما بعد المجتمع الصناعي, إذ ان العراق هو الوحيد المؤهل لهذه القفزة في العالم العربي – الإسلامي, وبالتالي تحرير النفط العربي, وإذاً : تحرير العالم, من السيطرة الأمريكية. 2- ويهدد السلفية الإسلامية بالتلاشي على هامش الانتقال الى الحداثة الجوانية في العالم العربي – الاسلامي, بقوة القاطرة التوحيدية العراقية.
ما لم يدركه المحافظون الجدد – الصليبيون الجدد, أن استعادة الصليبية في القرن الحادي والعشرين, أي الانخراط في صراع بشروط القرون الوسطى, هو,بالنسبة الى قوة عظمى حديثة, وصفة للفشل والهزيمة. ففي هذا الميدان بالذات, تكون الغلبة للفريق الأكثر تطابقا مع شروط القرون الوسطى, تقنيا وثقافيا. أعني: أن الصليبية الأمريكية كان يمكنها الانتصار على عدو نقيض ثقافيا ومتماثل تقنيا, كالاتحاد السوفياتي, لكن لا يمكنها الانتصار, اطلاقا, على عدو متماثل ثقافيا ونقيض تقنيا. هنا,’ النصر’ معقود للتخلف المنسجم مع نفسه.
المفارقة الكبرى أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تخسر, فقط, الحرب الصليبية في الميدان العسكري والسياسي, لكنها خسرت, أيضا, حرب النفط على الصعيد الدولي. فخلال هذه السنوات الست من الحرب الأمريكية على الإسلام, قضمت روسيا والصين والهند أكثر من ثلث سوق النفط العالمي الذي كان حكرا, في التسعينيات, على الولايات المتحدة. موسكو وبكين ودلهي نجحت في المنافسة النفطية من دون أن تطلق رصاصة واحدة, بل بالخضوع لمعايير السوق, أي لشروط المنافسة التجارية في السوق العالمية التي تحررت, جزئيا, من هيمنة واشنطن العالقة في المستنقع العراقي. لن ننسى, هنا, ما أفادته هذه البلدان في كل أشكال المنافسة الأخرى – حتى العسكرية – بفضل ‘الغياب’ الأمريكي في العراق. ذلك الغياب الذي أتاح لأوروبا فترة ذهبية من الاسترخاء والرخاء, وسمح للقارة اللاتينية أن تنتقل إلى اليسار.
كيف ستنتهي هذه الحرب الدامية?
تماما مثلما انتهت الحروب الصليبية, ليس فقط بهزيمة الصليبيين في الشرق, بل بهزيمتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية في الوطن أيضا. ولن يستطيع الأمريكيون الخروج من العراق, كما خرجوا من فيتنام, الى عزلة مؤقتة لمداواة الجراح والهجوم من جديد. كلا. فهزيمة الصليبية الأمريكية في العراق, سوف تطرح على جدول الأعمال الأمريكي ضرورة التغيير الشامل في الدولة الأمريكية,أي ضرورة قيام ثورة ديمقراطية تكنس الماضي الأيديولوجي القروسطي المسيطر في الولايات المتحدة, كما حدث مع الصليبية الأوروبية التي آذنت هزيمتها في بلادنا, بالثورة عليها في بلادها, والانتقال نحو الحداثة.
ان الشرط الحاسم لتبلور هذه الضرورة الأمريكية – وبالتالي: الكونية – هو انتصار الأيديولوجية التوحيدية المساواتية في العراق المقاوم, وهو ما سيحسم المعركة على الأرض من تحرير البلد إلى إعادة بناء مؤسساته ونخبه.
هل تلوح هذه الإمكانية في الأفق ?
نعم. فالتسنن العراقي ينتفض الآن, بالفعل, ضد السلفية وتنظيم ‘القاعدة’. وإذا كان الأمريكيون, فرحين بهذا التطور لأسباب تكتيكية, ويقدمون له الدعم, فإن مآل هذه الانتفاضة هو إمكانية اندماج سنة العراق في النهضة التوحيدية التي تتجلى مظاهرها في وسط وجنوب العراق, في الانتفاضات الجماهيرية ضد الملالي والمليشيات السلفية المذهبية المرتبطة بملالي طهران.0