يشعر العراقيون، ربما للمرة الأولى منذ هزيمة حرب الخليج الثانية العام 1991، بأنهم أقوياء كفاية، بحيث لا يركضون وراء المبادرة اليمنية لعقد القمة العربية، بأي ثمن، حتى لو كان انعقادها مشروطا بعدم حضورهم، كما عرضوا في الربيع الفائت. انهم، اليوم، يشترطون قرارات القمة، مسبقا، لكي يحضروها! وحسب صحيفة »بابل« التي يشرف عليها عدي صدام حسين فإن »العراق يعارض عقد قمة شكلية« لا تتبنى »قرارا برفع الحصار« المفروض عليه.ومع أن احتمال عقد قمة عربية، ولو »شكلية«، تراجع الآن، وحتى اجتماع وزراء الخارجية العرب المؤجل، بقرار سعودي مصري، الى الرابع والعشرين من الشهر المقبل، فليس لدى العراق ما يدفعه الى تغيير لهجته السياسية الجديدة التي تبلورت بعد ساعات من بدء القصف الأميركي البريطاني في السابع عشر من الشهر الجاري. فهو لم يكن يتوقع، حسب مصدر دبلوماسي، انعقاد قمة عربية أو على الأقل اتخاذها قرارات حاسمة لصالحه.وما تزال تصريحات نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز، أثناء القصف، تدوي »بعنفها«، على الأخص حين وصف موقف الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي طالما توددت بغداد إليه، بأنه »انتهازي ولئيم«، بينما دهشت العاصمة الأردنية عمان الأحد الماضي، من السلوك »غير البروتوكولي« للوفد العراقي الى الاجتماع الطارئ للبرلمانات العربية، حين قاطع أحد أعضائه كلمة الراعي، ولي العهد الأردني الأمير حسن، بالهتاف ضد »الخائفين من أميركا« أو حين هاجم رئيسه سعدون حمادي، في تصريحات صحافية، كلمة الأمير حسن التي دعت الى قرارات متعقلة، وشدد على جملة قرارات »واضحة وحاسمة«، و»تستجيب لمطالب الجماهير العربية«، وقد تبناها الاجتماع البرلماني العربي، بالفعل.وكان نائب الرئيس العراقي، طه ياسين رمضان، أعلن السبت الماضي، ان العراق سيتصدى للطائرات البريطانية والأميركية التي تقوم بدوريات في منطقتي الحظر الجوي فوق جنوب العراق وشماله، وهو ما حدث بالفعل، وتوعدت صحيفة »بغداد تايمز« الصادرة بالانكليزية أمس »كل عدو يطأ أرض العراق بالموت«، وكشفت أن عسكريين ومسلحين حزبيين وعشائريين، تلاحموا أثناء العدوان، وانتشروا في شوارع بغداد والبصرة والمدن الرئيسية الأخرى، للحيلولة دون »نشاطات تخريبية كانت محتملة من جانب الأعداء والمتسللين«.ومرة أخرى، قالت صحيفة »بابل« أمس، ان عام 1998 شهد »الانتصار العراقي الكبير الذي تحقق بإفشال العراقيين العدوان العسكري الوحشي الذي شنه المجرمون الأميركان والبريطانيون عليهم«. وأضافت انه أيضا، »انتصار كبير لأبناء العروبة الذين وقفوا مع أشقائهم العراقيين الصامدين«.ويبقى ذلك وغيره من المواقف يدور حول الموقف العراقي الأساسي الرافض عودة المفتشين الدوليين الى أراضيه، والذي يعتبر ان لجنة الأمم المتحدة الخاصة بنزع الأسلحة العراقية غير التقليدية (أونسكوم) قد »ماتت« مع بداية القصف الأميركي البريطاني، وأن التعاون العراقي مع الأمم المتحدة في هذا الشأن، مرهون بإلغائها العقوبات المفروضة على العراق إلغاءً كاملاً.وتقوم اللهجة السياسية العراقية الجديدة على استعادة للإيديولوجية الانتصارية لما قبل 1991؛ ولكنها تستند أيضا، الى معطيات واقعية. فإذا كان التهديد الأميركي »بالهجمات العسكرية القاسية« قادرا على لجم العراقيين، ودفعهم الى المساومة، كما حدث كثيرا، وخصوصا في شباط الماضي، فإن وقوع هذه الهجمات بالفعل، ومن دون أن تؤدي الى تحركات داخلية أو غزوات خارجية، كان العراق يتحسّب منها، حرر بغداد من الخوف والحرج. الخوف من الدمار وحجمه وتأثيراته السياسية الداخلية، والحرج أمام الشعب العراقي والأصدقاء، من أن القصف كان نتيجة التعنت. فالقصف الأميركي البريطاني كان مفاجئا، وغير مبرر بأي صورة، وهو لم يحدث جراء »التعنت« العراقي، والى ذلك، كان قاسيا جدا، ولكنه لم يهز النظام، بل أحرج المعارضة، وأربكها وشلها. وكان الشارع العراقي بكل فئاته، وربما لأول مرة منذ زمن بعيد، موحدا في موقفه من »العدوان الظالم« وفي »كراهيته للأميركيين والبريطانيين وعملائهم«.وحرّك العدوان الأميركي البريطاني، الجماهير العربية الى التضامن مع العراق. وإذا كانت التظاهرات الأردنية متوقعة بالنسبة للعراقيين، والتظاهرات المصرية ربما أقل من المطلوب لإحداث تأثير سياسي، فإن التظاهرات السورية الحاشدة والعنيفة والمعبرة، ضمنا، عن الموقف الرسمي، هي المفاجأة السارة لبغداد، مثلما كان الموقف الروسي المتشدد ضد واشنطن ولندن، على الصعيد الدولي.فعليا، أدى العدوان الأميركي البريطاني الى عزلة المعتدين وحلفائهم؛ والى إحداث تغييرات ملموسة في ميزان القوى داخل المنظمة الدولية وخارجها، لصالح العراق.وإذا كان وزير الخارجية السعودية، سعود الفيصل، استطاع أثناء زيارته »السرية« الى العاصمة المصرية الأحد الماضي، إقناع الرئيس المصري حسني مبارك بتأجيل اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي كان عقده مقررا الأربعاء المقبل في القاهرة؛ وبوقف عجلة انعقاد القمة العربية التي تتحفظ عليها السعودية، فينبغي أن نتذكر ان سبع عشرة دولة عربية كانت أبلغت جامعة الدول العربية موافقتها على المشاركة في اجتماع وزراء الخارجية العرب، المكرس للبحث في عقد قمة عربية موضوعها الوحيد: الشأن العراقي. وهو ما كان صعبا جدا إن لم نقل مستحيلا، في اليوم السابق للعدوان.فإذا كان الثقل الخليجي قادرا على تأجيل »القمة من أجل العراق«، فالخليج الآن معزول عربيا.