ليست سوى مصادفة. لأن جيمس كاميرون ليس مفكرا سياسيا، خبيرا في العلاقات الدولية، بل لعله ساذج، قليل الدراية في السياسة.. برغم ان عمله الاخير يطرح اسئلة سياسية وثقافية جوهرية، كانت وستظل مطروحة على العالم كله.المؤكد ان مخرج فيلم »تيتانيك« الذي تحول الى ظاهرة، او موجة عالمية، لم يقصد البتة ان يثير اي نوع من النقاش السياسي حول عمله الذي يتضمن الكثير من الأفكار والمواقف الاميركية التقليدية، ويؤدي الى أنماط معروفة من ردود الفعل، تجاوزت الحدود، بل لعلها ألغتها تماما.لم يقصد كاميرون ان يعيد الى أذهان العالم أجمع ان معضلة القرن العشرين الاولى، التي بدأت مع بدايتها، وما زالت مستمرة في أيامه الاخيرة، هي معضلة الوصول الى أميركا، الاتصال مع اميركا، والتواصل مع اميركا.. مما يمكن ان يزيل الشعور بمرارة الغربة المتبادلة، او العزلة المتبادلة.الفكرة بسيطة جدا، وسبق ان عالجتها السينما، ومختلف وسائل الاعلام، ومؤسسات الابحاث: مسافرون الى اميركا تقطعت بمعظمهم السبل، فابتلعهم المحيط في بداية القرن.. لكن من بقي منهم واستطاع ان يكمل الرحلة، الى تمثال الحرية، الى ارض الفرص، عاد ليرمي في المحيط أثمن وأعز ما كان يحمله من بلده الأم.لم تكن القلادة الماسية الزرقاء التي رمتها بطلة الفيلم في الماء، مجرد جوهرة ثمينة، كانت قلادة ملكية، تمثل بعضا من تاريخ اوروبا العريق، الذي لم تتردد مواطنة اميركية في دفنه في قاع المحيط. لم يعد هناك تأريخ آخر للعالم، غير الذي يكتبه اميركيون، او يصنعه اميركيون، او يعلن نهايته اميركيون.تلك هي محصلة نهاية القرن، مثلما كانت محصلة بدايته، كما يختصرها الفيلم ويرويها بأسلوب مقيت، لانه يعطي فكرة حاسمة عن نظرة اميركا الى الآخر، واحتقارها له، وشعورها بالغرور تجاهه، بعدما كسبت جميع معارك السنوات المئة الماضية، وآخرها معركة »التيتانيك«.دخل الفيلم الى بلدان، صالات وبيوت لم يطأها اميركي منذ زمن بعيد: إيران، فيتنام، كوبا، الصين، كوريا الشمالية. فرح الناس بالزائر الجديد، ووضعوه في موضع الأسطورة، ربما لأنه لم يعد هناك أبطال قصص حب خالدة في هذه البلدان، بل أبطال اجهزة استخبارات.لكن الموجة، التي كانت تسمى في الماضي غزوا ثقافيا، لم تقتصر على هذه البلدان المغلقة، على السياسة، كما على الثقافة والفن، بل هي بدأت في بلدان راقية، متطورة، متحضرة، دفعت ما يفوق المليار دولار من اجل ان تتفرج على مشاهد موتها الاولى، وعلى مشاهد صعود اميركا الاخيرة.كانت »التيتانيك« ذروة تطور تقني اوروبي، بل لعلها كانت رمزا من رموز التفوق الاوروبي على اميركا، لكن سوء الحظ والطقس، وأسرارا لم تكشف حتى اليوم، حولتها الى مجرد خردة غارقة في الأعماق، وجعلت من ذلك اليوم نذيرا بسلسلة من التداعيات والحروب والتراجعات الاوروبية امام اميركا التي راكمت طوال هذا القرن مواقع وضعتها في مركز قيادة الكون.لم يصفق الاوروبيون وحدهم، او ينفعلوا لإقدام أميركا الآن على إعادة إحياء هذا الرمز، تلك المصادفة التاريخية، بل انحنى العالم كله امام اعادة تشكيل التاريخ على الطريقة الاميركية، وفقد اي حساسية، او حصانة تجاه هذه الخطوة التي كان يمكن قبل عقود قليلة، بل قبل أعوام، ان تثير جدلا عالميا واسعا، حول الاخلاق والسياسة، ودور اميركا في تحديد العلاقة بينهما.صار الكلام الصادر من اميركا، في الثقافة او السياسة، دستورا عالميا، يسلّم مسبقا بمصدر وحيد للتشريع والتفسير، هو المصدر السائد، المنتصر، الذي بدأ على الأرجح في اعادة صياغة الوعي الجماعي للانسانية على أسس جديدة، مختلفة عما هو موروث من ثقافات وحضارات غابرة، مندثرة، مهزومة.على صورة اميركا ومثالها يجري بناء الانظمة السياسية، والأسواق التجارية، والأفكار الثقافية، التي تستثني، وتستبعد الكثير من التفاصيل التي تبدو لدى الاميركيين مملة وغير جذابة، لكنها قد تكون حيوية وتاريخية في حياتها ووعي الشعوب الاخرى.بعدما اعلن الاميركيون بغرور وصلف انتصارهم في معارك القرن كافة، واستحقاقهم الزعامة، طرح بعض مفكريهم السؤال: ماذا بعد؟ لانه لا يكفي اعتبار التجربة الاميركية تجربة اخيرة، او نهاية التجارب الانسانية. الجواب ما زال مبهما حتى الآن، الا من صورة واضحة وحيدة هي ان العالم ليس لديه خيار غير ان يحذو حذو اميركا.من اجل ذلك، لا بد من ان يمحو الآخرون ذاكرتهم، بمساعدة من اميركا، وان يشرعوا في بناء ذاكرة جديدة، تعتمد على النتف المتفرقة التي حملها المهاجرون الأوائل الى القارة الجديدة مطلع هذا القرن، ويستخدمونها اليوم للثأر من ذكرياتهم القديمة، او لتشويهها، لأنها كانت غير مجدية، وعقيمة، وتعطل بين الحين والآخر الاندماج النهائي في موقع السلطة العالمية الساحقة.لم تحمل بطلة الفيلم معها سوى ذكرى قصة حب، وليلة جنس، وقلادة. لم تخبر احدا في اميركا بكامل التفاصيل، بالنهاية المفجعة. كان الاميركيون يستعيدون لحظات رومانسية عن اجدادهم الاوروبيين، وكان العالم يبكي على ماضيه الضائع في المحيط. من جهة كانت اللحظة هي القياس، ومن الجهة المقابلة كانت الاعوام تستعاد بمرارة لا تخلو من الاعتراف بالهزيمة الاخيرة.لم يحمل الفيلم ببساطته الشديدة حتى البلاهة، ايا من هذه المعاني، ولم يكن مخرجه جيمس كاميرون مؤرخا، وقارئا للمستقبل. لكنه بالصدفة ليس الا، ألمح الى هذه المفارقات الغريبة مع قرب حلول نهاية القرن الاميركي الاول.