التعليم .. ليس مشكلة تربوية

أقرت الحكومة خطة إصلاح التعليم. كالعادة، لم تحظ هذه الخطة بالنقاش. وحين يكون ملف استراتيجي كملف التعليم الذي يقع في صلب العملية التنموية والسياسية والاجتماعية والثقافية، خارج السجال العام، ومحلا لقرار حكومي عاجل، نكون، إذاً، أمام نمط تعسفي لإدارة لا تزال تنجز ملفاتها في الكواليس.
التعليم أخطر من أن يُترَك للتربويين الذين ـ مع احترامنا لخبراتهم وآرائهم ـ لا يمكنهم إدراك موقع التعليم بالنسبة لمجمل البنية الاقتصادية الاجتماعية والمصالح العليا للدولة.

من حق التربويين أن يفكروا بالطرق التخصصية التي تشكل فضاءهم المعرفي والمهني. لكن ملف التعليم هو ملف سياسي بالدرجة الأولى، ولا بد من معالجته وفق منظور سياسي بالدرجة الأولى، أعني في سياق منظور عام لإدارة الاقتصاد الوطني.

جوهر المشكلة هي أن التعليم الثانوي والجامعي، تحوّل إلى عبء اقتصادي على الدولة والمجتمع، أولاً، بسبب تدني كفاءته وارتفاع تكاليفه، وثانياً، بسبب انفصاله عن الاحتياجات الاقتصادية، وتالياً تعطيله لقسم أساسي من قوة العمل المؤهلة بصورة سيئة لوظائف غير متوفرة، وغير المؤهلة لشغل فرص العمل القائمة فعلياً.

وللتوضيح أكثر، فإن ما تعانيه البلاد الآن، هو أن خرّيج الثانوية العامة ـ الذي كان في السابق مؤهلا لإشغال وظيفة إدارية بكفاءة ـ لم يعد، اليوم، مؤهلا لأي شيء. وهو وضع يدفع بالأُسر إلى الحرص على تعليم أبنائهم في الجامعات. الشهادة الجامعية تحولت، موضوعيا، وكأنها الثانوية العامة الجديدة، إنما غير المجدية على صعيد الاقتصاد الكلي لسببين، هما، أولا، انعدام التفاعل بين التخصصات الجامعية واحتياجات السوق، وثانيا، تردي مستوى التعليم الجامعي، بحيث يكون الخرّيج، غالبا، غير مؤهل للعمل في تخصصه أو عاجزا عن إعادة تأهيل نفسه للقيام بعمل آخر.

وبالمحصلة، فإننا نفتقر إلى الوظائف الملائمة للجامعيين، ولا نحصل على كوادر في الإدارة والتعليم والمؤسسات الخ، ذات كفاءة، ونضطر لاستيراد الأيدي العاملة. وهو ما يخلق تشوهات أساسية في قوة العمل، وتاليا في قوة الاقتصاد الوطني وكفاءته.

الخروج من هذا المأزق، يقتضي الفصل بين ثلاثة مستويات تعليمية هي:
1ـ تعليم ثانوي عام ذو نوعية عالية غير مرتبط بالدراسة الجامعية ولا التخصصات، يؤهل الدارسين كي يكونوا مواطنين متحصلين على الحد اللازم من المعارف والثقافة الحديثة والخبرات، مؤهلين، بعد التدريب، لشغل الوظائف المتاحة في سوق العمل.

2 ـ تأهيل مهني مرتبط مباشرة بالاحتياجات الإنتاجية.

3 ـ تعليم جامعي تخصصي رفيع المستوى يخرج كوادر إدارية وأكاديمية مؤهلة تأهيليا عاليا.
وهو ما يتطلّب إعادة هيكلة النظام التعليمي كله؛ ثورة في التعليم الثانوي والمهني، ووضع حد للانفجار الكمي في التعليم الجامعي.

ثورة التعليم الثانوي والمهني لا يصنعها التربويون، وإنما يشاركون فيها مع ممثلي الاقتصاد الواقعي، للتوصل إلى ما هو مطلوب للاحتياجات الاقتصادية الفعلية. أما التعليم الجامعي، فلا بد أن يكون نخبويا، لا بالمعنى الطبقي وإنما بالمعنى الأكاديمي. وهدفه تخريج قياديين ومتخصصين.

ولإنجاز ذلك، هناك وسيلتان، تقوم الأولى على تصعيب النجاح في الثانوية العامة بصورة جدية، بحيث لا تزيد نسبة الناجحين عن 20 ـ 30 بالمائة من المتقدمين، وتقوم الثانية على منح الفرصة للالتحاق بالجامعات للجميع في سنة تحضيرية متاحة لخريجي الثانوية العامة من دون استثناء، تنتهي بامتحانات شديدة النوعية تحدّد القادرين، من حيث مستوى الذكاء والقابلية والجدية، على الالتحاق بالدراسة الجامعية. على أن يكون التعليم الجامعي مجانيا بالكامل.

وسوف ينتج هذا النظام التعليمي مواطنين حائزين على حدٍّ كافٍ من الثقافة العامة والخبرات، وقوة عمل مؤهلة ومدربة، وقياديين ومهنيين وأكاديميين ذوي نوعية ممتازة. وبذلك، تصبح كلفة التعليم مبرّرة ومجدية من وجهة النظر الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، بينما يتحول الفائض من ميزانية التعليم الجامعي نحو تمويل الأبحاث.

ومن الواضح أن هذا النظام لا يتوافق، مطلقا، مع مشاريع التعليم الهادفة إلى الربح.

العرب اليوم

Posted in Uncategorized.