ناهض حتّر
يمكن للمعطيات الرقمية أن تؤشر الى اتجاهات عريضة، ولكن الاقتصار عليها قد يكون مضللاً. هذا هو استنتاجي من تأملاتي في خطاب وزيرة التخطيط، سهير العلي، في «المؤتمر العالمي لاطلاق الشبكة النسائية العالمية للطفولة» حول الانجازات الاردنية في حقل تنمية الموارد البشرية.
وبالنظر الى مناسبة الخطاب، فلعل العلي ارادت أن تقدم اطروحة دعائىة. وعند هذا الحّد، فليس لدينا اعتراض بالطبع. لكن خشيتي ان تكون وزيرة التخطيط، مقتنعة فعلاً بخطابها.
تجاهلت العلي ثلاثة معايير اساسية في تحليل وضع الموارد البشرية، هي نوعية التعليم، وسياقه الاجتماعي، ودينامية العلاقة بين مخرجات التعليم وسوق العمل والاحتياجات التنموية. وركزت، بالمقابل، على المعطيات الكميّة والفنية والادارية. وهي – على اهميتها – لا تعكس الواقع.
تقول العلي ان 45 بالمئة من الطلاب الاردنيين الذين ينهون المرحلة الثانوية يلتحقون بالكليات والجامعات. وهي نسبة تستحق التنويه. لكن الاسئلة تبرز، هنا، حول الآتي:
«1» قدرة المدرسة الثانوية على إعداد هؤلاء الطلاب، للدرس الجامعي. وليست لدي دراسات لامتحان هذه القدرة، لكن لديّ مئات الملاحظات من الميدان، إذ يشكو الاساتذة الجامعيون من المصاعب الجمة التي يواجهونها مع طلابهم الذين يأتون الى الجامعة من دون الحصول على المهارات اللغوية او البحثية او الاستيعابيّة، عداك عن تقنيات الحوار والقراءة والاستنتاج. ويفرض هؤلاء الطلاب، في النهاية، اساليب المدرسة الثانوية على اساتذتهم اليائسين، والمضطرين الى التعامل مع جيل لا يقرأ ولا يفكر ولا يحسن التعبير عن الذات او الافكار بلغة سليمة، بل بالكاد إعادة تسجيل «المحفوظات» على اوراق الامتحان.
«2» اتجاهات التعليم الجامعي، المتمركزة حول الدراسات النظرية التي تحتاج – على العكس من النظرة السائدة- الى الطلاب الاكثر ذكاءً، بينما هي تستقطب الاغلبية من انصاف الاميين هل هناك حاجة فعلا لكل هذا العدد من المقاعد الجامعية في الحقول الانسانية؟ واذا كان هؤلاء يذهبون، عادة، الى وظائف ادارية او شرطيّة او الى البطالة.. أفليس من الافضل انشاء معاهد ادارية لتخريج موظفين اداريين للقطاع العام او – اقله – الارتفاع بنوعية التعليم وتصعيب الاجتياز، للحصول في النهاية، على كادرات مؤهلة بينما يواجه الاخرون حقيقة افتقارهم مؤهلات الدرس الجامعي؟ والذهاب، بالتالي، الى التأهيل المهني؟
«3» نوعية التعليم الجامعي: هل جرى فحصها من حيث المناهج والمستوى؟ لم نتقدم خطوة واحدة في مجال تحديث المناهج او اعادة تكييفها مع الانجازات العلمية المعاصرة او مع الاحتياجات التنموية. لكن هذه المشكلة التي اعرفها جيدا في الحقول الانسانية – على الاقل – تحتاج الى ثورة ثقافية. اما المشكلة العملية المطروحة فهي تتعلق بالمستوى.
يتعرض الاساتذة الجامعيون لضغوط اجتماعية ثقيلة جدا لتمرير طلاب لا يستحقون النجاح، لكن الضغط الاساسي يأتي من ادارات الجامعات وبين يديّ تعميم صادر عن رئاسة الجامعة الاردنية ، يلح على تنجيح ما لا يقل عن 60 بالمئة من الطلاب. وفي الحقيقة ان نسبة التنجيح تصل الى 90 بالمئة. وفي النهاية، فان كل طالب جامعي – بغض النظر عن مستواه – يستطيع التخرج، بهذه الطريقة او تلك، من الكليات الانسانية.
وتتحدث العلي، بثقة، عن تطوير التعليم الاردني نحو «اقتصاد المعرفة» وهي تحسب، بالطبع، الميزانيات الضخمة التي جرى اهدارها تحت هذا الشعار. لكن تطوير «تعليم اقتصاد المعرفة» لا يتحقق باستيراد الحواسيب وتوزيعها على المدارس، وافتتاح تخصص «الآي تي» بعقلية التلقين والحفظ غيباً!.
لا شك في ان استخدام الانترنت ينتشر بكثافة بين الطلاب الثانويين والجامعيين. ولكن لأية اغراض؟ للدردشة والاستماع الى الاغاني، وفيما يتصل «باقتصاد المعرفة» لم يتحول الانترنت الى وسيلة سهلة للاستغناء عن الكتاب فقط، بل ببساطة الى ماكنة لسحب الابحاث الجاهزة التي يقدمها الطلاب الى اساتذتهم من دون ان يقرأوها.
وبالنظر الى البطالة الهيكلية العميقة التي يشهدها الاردن، وعنوانها الرئيسي عدم التطابق بين التخصصات ونوعيتها وبين متطلبات سوق العمل، فان حديث الوزيرة العلي المتفاخر بأن «النظام التعليمي في الاردن يأخذ بعين الاعتبار المواد من بين مخرجات التعليم وسوق العمل». يقع في باب الدعاية لا غير.
سأحدث وزيرة التخطيط عن مشكلة جوهرية تلوح في الافق، تلك القائمة في مجال دراسة الطب البشري. فبالنظر الى التكاليف الخيالية لدراسة الطب في عهد الخصخصة، نواجه، وسنواجه، عما قريب نقصاً فادحاً في الاطباء الاردنيين المستعدين للعمل في وزارة الصحة والمحافظات. لقد اصبحت دراسة الطب استثماراً مكلفاً، وسيكون عما قريب، مقتصراً على ابناء الاسر الثريّة التي لا ترسل ابناءها للعمل في معان او الطفيلة!.
ولن يمضي وقت طويل قبل ان نستورد الاطباء الوافدين من بنجلادش! كيف يؤثر ذلك على كل نظام الخدمات الطبية في البلد، وعلى مستقبل الطبابة في الاردن؟ سؤال مطروح ومطموس.
النقطة الجوهرية التي يتجاهلها القائمون على التخطيط للنظام التعليمي في بلدنا، هي ان التعليم لا ينفصل عن سياقه الاقتصادي – الاجتماعي – السياسي. وهو، بالتالي يتطلب تخطيطاً من نوع مختلف عن النزعة الفنية المحدودة الافق.