إذا كان النظام الأردني قد وجد في العصبية والقطاع العام، في ما أسميناه الدولة الخلدونية الناصرية، جدارا داخليا استند إليه، ليس فقط للبقاء، ولكن أيضا، للقيام بأدوار اقليمية تتخطى، احيانا، حجم الأردن، فإن النخبة النيوليبرالية الحاكمة اليوم تريد تفكيك تلك الدولة نهائيا، والاستعاضة عنها »بمنطقة حرة« تحت الحماية الاسرائيلية، فهي تنظر الى الأردن بوصفه معبرا اقتصاديا »صافيا« لا يحتاج من الدولة إلا الى وظيفتها الامنية، أما الوظائف السياسية للدولة فتتم إحالتها، في اطار المشروعات الكونفدرالية، الى اسرائيل، الأقدر على إدارة علاقات الداخل الاردني بالخارج الاقليمي والدولي. ومع الحفاظ على الاعتبارات البروتوكولية، تنظر النخبة النيوليبرالية الى مفهوم الحكم الذاتي باعتباره المفهوم الأنسب، لتحقيق اندماج ناجح في السوق الرأسمالية العالمية. وفي سياق كهذا تصبح العشائر فائضا سكانيا يتم التعامل معه بواسطة الشرطة من جهة، والجمعيات الخيرية من جهة اخرى.فما هي العناصر الأساسية للبرنامج النيوليبرالي في الأردن؟ نتابع تاليا:أولا الخصخصة، بوصفها مفهوما شاملا واستراتيجية. فالنخبة الحاكمة لا تعمل، حسب، على إلغاء القطاع العام الإنتاجي والخدمي، بما في ذلك التعليم والطبابة والرعاية الاجتماعية والثقافة، بل هي تسعى الى تفكيك دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي تفكيكا شاملا، وترسيخ الليبرالية الاقتصادية، المتحللة من كل التزام اجتماعي أو أخلاقي، أيديولوجية عامة للدولة والمجتمع.ثانيا الكمبرادورية، بما هي خضوع شامل لمنطق العولمة الرأسمالي. هنا يصبح كل ما هو مرتبط بمفهوم »السيادة الوطنية«، عقبة أمام التطور الاقتصادي المرجو. وتتبنى النخبة الحاكمة في الأردن، استراتيجية الاندماج غير المقيّد بآلية السوق الرأسمالية العالمية، وصولا الى تحويل الأردن الى »منطقة حرة« من أي قيد حمائي او وطني او محلي، يعوق حرية رأس المال الاجنبي في التملك (بما في ذلك الاصول الوطنية والأرض..) والاستثمار (في كل المجالات).ثالثا الأسرلة. فبالنظر الى ان البنية الاقتصادية الاجتماعية الأردنية لا تمتلك الشروط التي تؤهلها للاندماج المباشر في السوق الرأسمالية العالمية، فإن المتاح هو تحقيق هذا الاندماج بواسطة اسرائيل. فإسرائيل، بوصفها جزءا من النظام الرأسمالي العالمي، قادرة على إدماج المنطقة في ذلك النظام، بشرط أساسي هو اندماج المنطقة في النظام الاسرائيلي. ومن هنا، تتبنى النخبة الحاكمة في الأردن، استراتيجية التحالف غير المشروط مع اسرائيل، والشراكة الاقتصادية المفتوحة معها، بغض النظر عن »المخاوف الوطنية«.وانطلاقا من هذا المنظور، تسعى الحكومة الاردنية الى اجتذاب الاسرائيليين الى مشاريعها الاستثمارية، باعتبارهم شركاء »استراتيجيين«. وتخطط الحكومة الاردنية، ليس فقط الى إشراك الاسرائيليين في الاستثمارات المأمول إقامتها في منطقة الأغوار، ولكن الى إشراكهم في إدارة هذه المنطقة الغنية بالإمكانات الزراعية والمعدنية والسياحية. وقد ناقش الجانبان الاردني والاسرائيلي، غير مرة، مشروعا للإدارة المشتركة لأخدود وادي الأردن، قد يرى النور قريبا، بينما بدأ تحويل المدينة الساحلية الوحيدة في الأردن، العقبة، بالفعل، الى حديقة خلفية لجارتها »الاسرائيلية« (ايلات).وتشجع الولايات المتحدة، الشراكة الاردنية الاسرائيلية. وهي تمنح إعفاءات جمركية للسلع التي تنتجها مصانع اردنية اسرائيلية مشتركة. وقد أدت التسهيلات العديدة التي يمنحها المسؤولون الاردنيون، وانخفاض الاجور وأسعار الطاقة والخدمات، الى انتقال العديد من المصانع الاسرائيلية التي تتطلب عمالة كثيفة الى المدن الصناعية الاردنية. وقد بدأت هذه المصانع ببيع منتجاتها في الأردن ودول الخليج والولايات المتحدة. وهو ما يسبب أزمة حقيقية للصناعيين الاردنيين، بحيث انهم يضطرون إما الى الخضوع للصناعيين الاسرائيليين او إقفال مصانعهم.»ويستثمر« الاسرائيليون في الأراضي والعقارات الاردنية. وقد أسسوا، لهذه الغاية، شركتين في عمان، بالتعاون مع مستثمرين من عرب ال1948، ويلعب هؤلاء دورا رئيسا في تجسيد التعاون الاقتصادي بين اسرائيل والأردن.رابعا الانفتاح الديموغرافي او التوطين. فالمشروع النيوليبرالي الكمبرادوري المتأسرل، يصطدم بالبنية الديموغرافية الاردنية »الجامدة« المتشكلة من عشائر متماسكة وتعيش خارج آليات السوق، اذ يعمل أبناؤها في مؤسسات الدولة والجيش والقطاع العام. وهي، الى ذلك، تمتلك نفوذا سياسيا يعوق المشروع النيوليبرالي. وكان النظام الاردني هو الذي حافظ، في الماضي، على بنية العشائر، ودعمها، وفصلها عن آليات السوق، لأغراض سياسية، أهمها توفير قاعدة اجتماعية للنظام تمكنه وقد مكنته فعلا من مواجهة تحديات حركة التحرر الوطني العربي في الخمسينيات والتسنينيات، والتحدي الفلسطيني في السبعينيات. وقد غدت هذه البنية العشائرية عبئا على النظام، وعائقا أمام مشروعه الجديد، في حين يندمج فلسطينيو الأردن المرتبطون بآلية السوق تقليديا، والنشطاء اقتصاديا، في المشروع النيوليبرالي.وقد تبنى النظام، علنا، منذ خريف 1995، استراتيجية مزدوجة تهدف الى تعزيز دور ونفوذ فلسطينيي الأردن، والى إغراق البلاد بالفلسطينيين، بحيث يتحولون الى اغلبية ديموغرافية. وقد صدرت قرارات عديدة في هذا المجال، أهمها منح فلسطينيي الضفة الغربية وغزة، جواز السفر الأردني وحقوق المواطنة، واعتبار الفلسطينيين الاسرائيليين، عربا، حيث تعطي القوانين الاردنية امتيازات استثمارية للمواطنين العرب. هذا المشروع، بعناصره المترابطة، يسعى، كيما يتحقق، الى التحرر من التزامات النظام السابقة، محليا (وخاصة ازاء العشائر الاردنية) وعربيا (وخاصة ازاء العراق) لا سيما ان »الشرق اردنيين« ليسوا، حسب، ذوي نزعة عروبية تجد صداها في الثقافة والسياسة، بل ويرتبطون بعلاقات ومصالح مع دول الجوار: العراق بالدرجة الاولى، ثم السعودية وسوريا. ومن كل ما مضى، نستطيع ان نفهم حجم التأييد الذي يحظى به العراق في الأردن، كما نستطيع ان نفهم حجم الاجراءات العنيفة التي واجه بها النظام تظاهرات معان، المؤيدة للعراق، إبان أزمة شباط. فالحصار العسكري، وفرض حظر التجول، وتجريد المدينة من سلاحها، واعتقال المئات من أبنائها، وتقديم (47) منهم الى محكمة أمن الدولة، لا تمثل اجراءات اعتيادية، وردا ملائما على تظاهرات رأي، بل هي (هذه الاجراءات) في الواقع، تنفيذ لسياسة استئصال معدة، وتتحيّن الفرص للتنفيذ. منذ شباط 1996، انفردت النخبة النيوليبرالية المتأسرلة بالحكم، معبرا عنه بتشكيل الحكومات وتقرير برامجها. وداخل هذه النخبة هناك تياران، أولهما تيار قَدِمتْ عناصره من القطاع الخاص، وهو ذو ميول عمالية (نسبة الى حزب العمل الاسرائيلي) وعرفاتية، والثاني قدمت عناصره من تكنوقراطيي البيروقراطية الاردنية، وهو ذو ميول ليكودية و»حماسية«.التيار الأول، الذي يمثله رئيس الوزراء الاسبق عبد الكريم الكباريتي وفريقه، اكثر جرأة ومغامرة وعداءً للعراق والعرب، ويلوّن برنامجه بادعاءات ديموقراطية، ويميل الى استخدام الوسائل السياسية.والثاني، الذي يمثله رئيس الوزراء الحالي، عبد السلام المجالي وفريقه، أقل صخبا وأكثر ميلا لاستخدام الوسائل الامنية والإدارية. وأخيرا، يسعى التيار الاول (الكباريتي) الى تعاون وثيق مع السلطة الفلسطينية، بينما يسعى الثاني الى تنفيذ البرنامج نفسه بدون هذه السلطة، او على الأقل، بدون عرفات.