ناهض حتّر
من حق الاخوان المسلمين، بالطبع، الاحتفاء بمئوية مؤسس الحركة، الشهيد حسن البنا، وتمجيده، والتأكيد على استراتيجياته. وقد يكون لذلك دلالة ايجابية في الحاضر، من حيث ان التيار الرئيسي في «الاخوان»، يلجأ الى البنا – المعتدل والبراجماتي- في مواجهة المتطرفين، داخل الحركة وخارجها، ممن يستلهمون شهيداً اخوانياً آخر هو سيد قطب، مؤسس مدرسة التكفير والعنف.
لكن من حقنا، أيضاً، ان نتحفظ على الانموذجين والمدرستين، ثم نتطلع الى استلهام انموذج آخر ومدرسة ثالثة، يتمثلان في جمال الدين الأفغاني، من أجل ما نعتقد انه اصلاح جذري للحركة الاسلاميّة التي نعتبرها مكوناً من مكونات الحركة الوطنية.
***
لم يكن حسن البنا مفكراً فيلسوفاً بل كان داعية ورجل حركة وممارسة. وقد طبعت هذه السمة حركة الاخوان المسلمين بطابعها حتى الآن. فلم يُقدم «الاخوان» – مثل مؤسسهم – اي جهد في نقد التراث العربي- الاسلامي، بل رفضوه كلية، مسقطين – هكذا – 14 قرنا من التفاعل الحيّ الخلاق بين الاسلام والمجتمعات الاسلامية فيما يمكن ان نسميه «الاسلام التاريخي». كذلك فعلوا في الرفض الحاسم للاسلام الشعبي – بكل نزعاته الديمقراطية والانسانية – وفي الخط نفسه لم يشغلوا انفسهم ابدا في انشاء نظرية اسلامية للتعامل مع متطلبات النهضة العربية الاسلامية في العصر الحديث.
بالأساس، لم يهتم البنا بالعمل النظري الشاق والابداعي، بل اكتفى بعدّة ايمانية بسيطة تقوم على تصور مبسط جدا للعملية التاريخية الضخمة والمعقدة والاستثنائية لكفاح المسلمين الاوائل وشروط انتصارهم في تأسيس الامة والدولة، وشقّ طريق ازدهارهما.
ومتحررا من النظرية وقيودها، صبّ البنا كل عبقريته وطاقاته في بناء الحركة، وقد اتاح له ذلك ممارسة العمل السياسي بمزيج فعّال من الغموض والبراجماتية. وطالما ان الاولوية هي للحركة لا للرؤية، لم يكن لدى البنا مانع من الحصول في بداية نشاطه، على مساعدة مالية من شركة قناة السويس الانجليزية، او ارجاء مقاومة الاحتلال على اساس اولوية الدعوة الاخلاقية. ولضمان نمو الحركة وتمكنها في المجتمع المصري، لم يقارع البنا المحتلين الانجليز، وتحالف مع الاحزاب الاقطاعية ونظام الملك فاروق الذي استخدم الحركة في مجابهة حزب الوفد واليسار المصري.
تعمد البنا ان لا يقدم توصيفا محددا لحركته. فهي عنده، «دعوة سلفية او طريقة صوفية، وهيئة سياسية وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية».
وهذا يعني انها منظمة، مكرسة للهيمنة الشاملة على المجتمع، ولا ينقصها بالطبع الجناح المسلح. ففي قلب الحركة، وبسرية كاملة، اقام البنا ما عرف «بالنظام الخاص» وهو تنظيم مسلح تورط بالفعل في اعمال عنف في مصر الاربعينات.
وهكذا، فان سيد قطب خرج، بالفعل من عباءة البنا. غير ان الاول – بعكس الثاني – لم يجامل مجتمعه – وهو يضمر تكفيره – بل كفّره صراحة، باعتباره «جاهلية جديدة»، ولم يخف البندقية تحت العباءة، بل اشهرها علنا.
ناور البنا، نظام الملك فاروق واحزابه ورعاته الانجليز، حتى تمكن من بناء حركة جماهيرية وشبكة تجارية مالية، واعلامية ومنظمة مسلحة.. واصبح مستعدا لليوم التالي، فعاجله النظام بضرب الحركة… ومن ثم اغتياله.
المشكلة الجوهرية للحركة الاسلامية -منذ البنا- ما تزال في تجاهل النظرية لصالح الحركة. وهو ما قادها -ويقودها- الى التورط في تحالفات واتجاهات لا مبدئية، والخضوع لمستلزمات الحفاظ على وتعزيز شبكاتها، بأي ثمن. ما يجعل «الحركة» قوة محافظة لا قوة تغيير.
لم يبق لدينا مساحة للحديث الكافي عن الانموذج الذي نراه اعلى نماذج الاسلام السياسي، اعني جمال الدين الافغاني الذي بدأ البداية الصحيحة، بتحديد المهمتين الرئي¯سيتين امام الشعوب الاسلامية (1) التحرر من الاستعمار (2) التحرر من الاستبداد واقامة الحكومات الديمقراطية على الطريقة الغربية.
وبانطلاقه المبدئي من استراتيجية وطنية -ديمقراطية جذرية، رسم الافغاني سياقا حداثيا للصحوة الاسلامية، مستلهما انوار التراث العربي الاسلامي وانوار الغرب الحديث والنزعة الانسانية، وصولا الى الاشتراكية التي «وان قل نصراؤها اليوم، فلا بد تسود العالم، يوم يعرف الانسان انه واخاه الانسان من طين واحد».
نحن الآن في امسّ الحاجة لخط الافغاني في الحركة الاسلامية، حتى «تنردم الهوة بين الاسلام واليسار، مثلما انردمت بين الكاثوليكية واليسار في امريكا اللاتينية الناهضة الى التحرر والديمقراطية والتقدم.